إني أتّهم.. محاكمة إذاعية يترأسها سعيد فريحة

1٬106

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

يطيب لـ(الشرق الأردني) دوماً ان تتلقى النقد النزيه والتوجيه الصحيح بحيث تخرج برامجها على اقرب شكل من الكمال المنشود. وتوخياً لهذه الغاية، وسعياً وراءها دعت الى عقد جلسة فنية على شكل محكمة نظامية تولى رئاستها الأستاذ سعيد فريحة، وتولى الدكتور سهيل إدريس مهمة المدعي العام.

المتهمان: الأخوان رحباني

المدعي العام: الدكتور إدريس

هيئة الدفاع: نجيب حنكش ومحمد سلمان

انعقدت الجلسة برئاسة الاستاذ فريحة الذي حمل عصا النظام في يمناه، واشار الى الدكتور ادريس إيذانا بابتداء الجلسة، وقد تقدم الدكتور متأبطا رزمة من الأوراق والمستندات ليدعم بها حججه، وعندما اقترب من قفص الاتهام، القى بنظرة فاحصة متهمة على المتهمين الأخوين رحباني، وقد جلست معهما الآنسة فيروز، واستقر في مكان هيئة الدفاع نجيب حنكش ومحمد سلمان ومحامي دفاع، وتنحنح الرئيس، ثم اعلن افتتاح الجلسة وقال:
– ارجو ان لا يحسب المستمعون الكرام، ان هناك محاكمة بالمعنى الصحيح الدقيق، فالامر لا يتعدى تقليعة شاءتها محطة الشرق الأدنى، لتجلو بها نهجها الذي اتبعته في محاولة مخلصة للارتفاع بمستوى فنَّي الموسيقى والغناء العربيين، وهنا ضرب الرئيس بعصاه على الطاولة وقال:
فلنبدأ الآن المحاكمة، او فلنسمها المسرحية الخفيفة..

– المدعي العام: يهمني اولا ان أعبر عن إعجابي الشديد وتقديري التام لفن الأخوين رحباني، وانما كلفت بأن اقف منهما موقف الاتهام والعدوان، ولابد مما ليس منه بدّ..

الرئيس: ما قول الأستاذ رحباني؟

رحباني: اتفضل يا استاذ..

المدعي العام: سأوجه الاهتمام اولا الى تأليف الأغاني، يقال ان الأخوين ربحاني لا يتوليان النظم بأنفسهما بل يتولى ذلك بعض الشعراء من وراء ستار.
الرئيس: ما هو جواب الأخوين على هذه التهمة؟

رحباني: حضرتك بدّك تاكل عنب او بدّك تخانق الناطور؟

المدعي العام: لأ.. انا جاي اخانق الناطور (ضحك).. ثم يهمني ان اعرف المؤلف الحقيقي، حتى اخرج بنتيجة من الموضوع..

محمد سلمان: اكثر من مرة كنت ارى عاصي ومنصور قاعدين عم يؤلفوا أغانيهم بأنفسهم.

المدعي العام: طيب هل ينظم الأخوان الرحبانيان الشعر على معرفة بالعروض اي بعلم الوزن والقوافي؟ ام بطريقة تلقائية، اي بدون معرفة بالتفاعيل؟
رحباني: نحن ننظم الشعر على معرفة بأصوله، وننظم على طريقة خاصة تساعدنا على تقديم اعمالنا الفنية.

المدعي العام: لي سؤال اذن حول قصيدة “من رياح الشتاء”

فقد ورد فيها ما يلي:

يا صاحبي الراعي الا تذكر

حدائق الصحو وظل السرو

اذ كان للصيف على ارضنا

شمس يذري لونها البيدر

– قافية صدر البيت الاول هي “تذكر” اما قافية العجز فهي “السرو”. فمطابقة القافيتين هنا غير كاملة ومع ذلك فالخطأ الكبير هو اختلاف قافية البيت الاول عن قوافي الأبيات التالية.

فالسرو تنتهي بحرف مسكن هو الواو، اما البيدر وما اليها، فتنتهي بالراء المضمومة، ولا شك في ان الأخوين رحباني قد خلطا بين هذه القوافي، فاعتبرا الراء في السرو ونسيا الواو المسكنة بعدها، “وهنا اشار الرئيس لهيئة الدفاع لتدلي بما لديها من دفاع”.

محامي الدفاع: انا اعتقد ان هذا الهجوم من الدكتور سهيل في غير محله، لأن الشعر خلق ليسمع لا ليكتب، فما الفرق في الكتابة فقط، مع العلم بأن في الشعر حالات كثيرة تشيع فيها الحركة فتصبح الضمة واوا من حيث اللفظ ولكنها لا تكتب، كما ان في اللغة حروفا كثيرة تكتب ولا تلفظ، وكذلك العكس، واذن فلا يمكن ان تطبق قواعد الكتابة على القوافي في القائمة على السماع وعلى الجرس، ولا مجال اذن لأن يعتبر الرحبانيان مقصرَين في معرفتهما بقواعد العروض.

رحباني: عبارة ظل السرو عطتني خيال حلو فكتبتها..

الرئيس: اعتقد ان الدكتور ادريس على حق وخبرته في شؤون الأوزان والقوافي واضحة، غير ان كلمة السرو هنا وان كانت غلطة عروضية، فإن صدورها عن الأخوين رحباني يخفف كثيرا مما فيها من خطأ، قال احد الشعراء الغربيين:

“اذا شئت ان تحصل على حسنات المرأة الكثيرة فعليك ان تتحمل هنّاتها القليلة، واخطاء الحسان مغفورة، فإن لم تغرفوها فخففوها واحسبوها على الأخوين رحباني ربع غلطة، اما انا فابرئهما واحكم على فيروز بالغناء، “غناء لفيروز”.. “شباكة يطل”

نجيب حنكش: اسمحلي بكلمة يا حضرة الرئيس..

الرئيس: تفضل استاذ نجيب حنكش..

نجيب: سمعنا كلنا هلق اغنية حلوة رقيقة ورائعة بالحانها وبموسيقاها فنسينا كلنا مناقشة التفعيلات والقافية والشعر وهالبيت صحيح وهالبيت مكسور.. هيدا المهم في الغناء، مش المهم انو نحفتر مثل ما عم يحفتر الدكتور ادريس –الموسيقى والغناء بيغطوا على العيوب اللغوية.

المدعي العام: اسمحلي يا حضرة الرئيس، هذا الكلام مغلوط. ان امامنا قصائد شعرية باللغة الفصحى، فإما ان تنظم الشعر خالياً من العيوب، وإما الا ننظمه قطعا، اما الموسيقى والغناء، فلهما شأن آخر.

الرئيس: ما هي اعتراضات الدكتور ادريس بعد ذلك؟

المدعي العام: في اغنية “شباكه يطل” يقول الناظمان:

شباكه الجميل

حلم طيورنا

درفاته تميل

نحو زهورنا

– درفاته هذه كلمة عامية ليست موجودة في العربية الفصحى.

رحباني: موجودة في القاموس كلمة درفة، وعلى فرض عدم وجودها، الا يجوز استعمالها بالعامية؟ لقد استعمل امرؤ القيس كلمة سجنجل، وهي كلمة رومية فكيف لا يجوز لنا استعارة كلمة من لغتنا العامية؟

المدعي العام: قانون اللغة الفصحى لا يسمح لك بذلك ولا سيما في الشعر.

“وهنا اشتد النقاش وعلا الضجيج ولم يجد الرئيس بداً من وضع حدّ للجدل حول هذه النقطة”

الرئيس: اعتقد ان الموضوع قد استوفى حقه من البحث فيما يتعلق بتأليف الأغاني، ولا يسعني إلا أن أهنئ الدكتور سهيل ادريس على طريقته في الاتهام واتجاهه فيه، فقد اثبت انه انما يريد ان ينتقد حباً في الوصول الى نتيجة أحسن، ولم يكن غرضه الانتقاد حباً في الانتقاد، وما غايته الا غايتنا جميعا بأن نرتفع بمستوى اغانينا عن مستوى الأغاني الرخيصة التي تتضمن المعاني المبتذلة والكلام السطحي والاسلوب الهزيل. وهو يريد بلا شك ان يرتفع الأخوان رحباني بالمعاني كما ارتفعا بالألحان، واما من جهة التأليف فأنا مقتنع بأن الأخوين رحباني هما اللذان ينظمان اغانيهما، لا كما يشاع، واما الهفوات التي وردت في هذه الأغاني، فهفوات لها قيمتها من الناحيتين اللغوية والعروضية، وأرجو من المؤلفين ان يتلافيا ذلك في المستقبل، ولكن في هذه الأغاني من حيث التأليف مزايا كثيرة كاختيار الكلمات العذبة التي اضفت عليها الالحان جمالاً بديعاً فضلاً عن رقة المعاني ودقتها، فأهنئ الأخوين رحباني على موهبتهما في التأليف، واعتقد انهما أحدثا ثورة في الموسيقى العربية، ولست ارى ان يمتنعا عن التأليف، بل يسيرا في اللحن والنظم جنباً الى جنب.
رحباني والجميع (يهتفون) عاش العدل.. عاش العدل..

الرئيس: هل للأستاذ حنكش ان يعلق لنا على هذه النقطة؟

حنكش: استحلفك يا سيدي الرئيس بالسيكا والنهاوند ان تمنع المتكلمين من العودة الى السجنجل وسيبويه ونفطويه..

الرئيس: لا تنس انه كما ان للصوت الجميل روعته واصوله فإن للّغة مفاتنها واصولها. واذا جاز لك ان تطرب للأغاني الحلوة وتنزعج للصوت القبيح، فلم

لا يجوز للدكتور ادريس وغيره من المثقفين ان ترتاح آذانهم للغة الصحيحة ويمجّوا الألفاظ الركيكة، ثم من قال ان احكام سيبويه تمنعك من التمتع بالصوت

الجميل، والدكتور ادريس سيد من يعلم ذلك، فليسمع معنا فيروز مرة أخرى ولنسمع رأيه في الأصوات والألحان كما سمعناه في اللغة والبيان.
فيروز “تغني اغنية يابا لا لا”..

المدعي العام: صوت فيروز جميل دافئ عذب، ولا سبيل الى نكران ذلك، ولكن لي ملاحظة على التلحين، فإن الأخوين رحباني يلحنان قصائد شرقية بألحان اما شرقية محض او غربية محض، ألم يكن من الأوفق ان يلقحا الموسيقى العربية بالغربية؟

رحباني: عوض ان نقول تلقيح نقول تطور لأن الموسيقى الغربية هي حالة من حالات التطور، اللحن الشرقي غني بحد ذاته انما تنقصه امكانيات الإخراج

وأوركسترا وما تتطلب الاوركسترا من توزيع آلي مختلف ولا يعالج هذا التوزيع الا بعلوم الهارموني والكونتربوان وغيرها، وما وصلت اليه الموسيقى الغربية ان هو إلا حالة من حالات التطور الذي تستطيع موسيقانا ان تصل اليه بالعلم، واعطيك مثلاً على ذلك احد موشحات “ابن هند”:
– يا مليحات الهوى –غناء كارم محمود. فهو من نغم الحجاز العربي الأصيل وقالب التلحين هو قالب الموشح الشرقي ولم نضف اليه في هذه الحالة الا

امكانيات الإخراج الحديثة، فاسمحوا لي ان اسمعكم اياه لتحكموا ما اذا فقد طابعه الشرقي وهل تسمون هذا تلقيحاً ام تطوراً.
المحكمة: لا مانع لدينا من السماع..

حنكش: اقترح ان يغنيها الدكتور وتحدثنا فيروز..

(ضحك)

كارم يغني موشح من “مغناه ابن هند”..

الرئيس: ما رأيك يا دكتور؟

المدعي العام: الرأي رأيك يا حضرة الرئيس، وانما يخيل اليّ ان في الرأي الاخير للرحباني جانباً غير يسير من الصحة والوجاهة، وانا لم أبخس الأخوين مكانتهما في اللحن، والواقع ان اعتراضاتي الرئيسية تكاد تنحصر في اللغة والنظم، وما وجهته من النقد الى الحانهما انما دفعتني اليه رغبة في بلوغ الكمال. والكمال غاية لا تدرك..

حنكش: طيّب بس بدنا نعرف شو الحكم النهائي قبل ما نروح، شو بتحكم يا حضرة الرئيس بها القضية؟

الرئيس: بناء على ان التهم التي وجهت الى الأخوين رحباني ليست بذات بال، وبناء على ان اكثرها لا يقع ضمن صميم دائرتهما الفنية وهي التلحين، وبناء على ذلك احكم بتبرئة الأخوين.. (ضجيج.. وتصفيق..) وأطلب اليهما ان يستمرا في نهجهما مع أخذ ملاحظات الدكتور ادريس بعين الاعتبار، وقبل فض الجلسة نستمع الى “مغناة ابن هند” من فيروز مرة أخرى، فوالله انها لا تملّ..