الشبكة تنشر وثيقة نادرة عن البئر الأولى للنفط في العراق .. يوم تهددت كركوك بالغرق في نهر في النفط
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
في نيسان عام 1927 وسهول كركوك وهضباتها في عرس الزمان، ترتدي حلل الربيع السندسية، وكانت مخيمات شركة نفط العراق في بلخانة تنبض بالحركة والحياة، انها تستعد لاستقبال الرجل الذي بعث الحياة في امة “تنشئ الحياة وتبني كبناء الابوة الامجاد” انها رفعت الاعلام وفرشت الطنافس واقامت معالم الزينة لتستقبل –لاول مرة- جلالة الملك فيصل الاول يزورها لتدشين اولى الحفريات التي تقوم بها الشركة، للتنقيب عن النفط في البئر رقم واحد في بلخانة، ماذا جرى على الضبط منذ زهاء ربع قرن في ذلك اليوم المشهود في تاريخ النفط في العراق، لقد حاول مندوبو “اهل النفط” جمع المعلومات والحقائق من الاشخاص الاحياء الذين شاهدوا ذلك المهرجان، فراحوا يتصلون بهم واحدا واحد، فتكونت لديهم صورة حية عن الحدث العظيم نحملها فيما يلي:
الموكب الملكي
وصل حضرة صاحب الجلالة الملك العظيم بقطاره الملكي الخاص من بغداد الى بلدة سليمان بك تحف به رجال الحاشية الملكية والهيئات الرسمية، فاستقبلته بالهتاف جماهير لا يحصرها العد وعلى رأسها اعيان المنطقة وكبار الرجال الرسميين ورجال السلك الدبلوماسي وكبار مديري شركة نفط العراق وموظفيها وعمالها.
سار الموكب الملكي في رتل من السيارات من محطة سليمان بك الى مخيمات بلخانة في طريق طولها 5 كيلومترات تحت اقواس النصر المنصوبة، تجللها الاعلام العراقية الخفاقة.
استعدادات الحفلة
ونترك السيد الفاريس “رئيس كتبة النقليات يحدثنا عن مشاهداته:
كان السرادق الكبير يتوسط ارض المخيم وقد فرش بالسجاد العجمي الفاخر والطنافس العربية.
وقد استحضرت المعدات الفضية والصحون خصيصا لهذه المناسبة السعيدة، واستدعي امهر الطهاة وابرعهم لتهيئة الطعام الملكي الخاص، واعداد المناسف الشرقية للضيوف، ونصبت دكة المهرجان امام برج البئر الحديدي وقد ارتفعت فوقه معالم الزينة والبهجة.
موعد الحفلة
قال السيد بهاء الدين ولي (ملاحظ النقليات) ان الاحتفال بالتدشين جرى في الساعة الرابعة بعد الظهر.
عدد الحضور
واضاف السيد احمد سيد طاهر (مستودع ادوات المراب) قائلاً: “ان بلخانة كانت تعج بالشخصيات الرسمية الكبيرة وعدد وافر من اعيان اللواء والقرى”.
كلمة الترحيب
وكأن السيد الفاريس تذكر ما نسيه خلال تلك السنين فعاد يقول: “كنت في خشم الاحمر احشد السيارات وارسلها الى سليمان بك وبلخانة لتأمين حركة التنقلات.
انني مازلت اذكر ان المغفور له جعفر باشا العسكري كان في عداد الحاشية الملكية.
وقد تشرف بالمثول امام الحضرة الملكية مدير الشركة العام آنذاك، السيد بول والسادة هميك وسمارت ولينام. وقد القى كلمة الترحيب السيد كنش.
نهار بديع
وقال السيد يعقوب حنا “ملاحظ الخراطة” لقد اصبحت ذاكرتي تخونني اذا ما افرطت في التفاصيل، ولكني اذكر جيداً بان الجور كان جميلاً منعشاً.
اللباس الرسمي
وقال السيد شاكر سعيد: “كان جلالة المغفور له الملك فيصل الاول مرتدياً في تلك الاثناء اللباس الرسمي والسيدارة”.
البئر رقم واحد في بلخانة
قال السيد مجيد علي “ملاحظ المراب”: “بعد هذا الاحتفال توجهت الانظزار الى البئر رقم واحد في بلخانة لعلها تلفظ النفط”.
المفاجأة الكبرى
انقضى الربيع وتبعه الصيف، واقبلت بشائر الخريف في شهر تشرين الاول، والانظار كلها متجهة نحو بلخانة حيث تقوم الحفريات بجد ونشاط، ترقب ظهور النفط بفارغ صبر، حين ظهرت المفاجأة العظيمة في بابا كركر حيث تقوم حفريات اخرى ما تزال في بدايتها الاولى وعلى حين غرّة انفجر البترول ذلك الانفجار الهائل، وهدد المنطقة بأسرها، اذ غمرت الارض جحافل من اللهب والدخان.
نحن نترك الكلام للمستر كنش الذي شهد الحادث منذ بدايته حتى النهاية، يروي لنا باسلوبه الممتع كيف تغلبت يد الانسان على ثورة الطبيعة: “كنت في خيمتي في طوزخورماتو، جنوبي شرقي كركوك، حيث تقوم الحفريات للتنقيب عن النفط، وكان ذلك في السابع والعشرين من شهر تشرين الاول 1927، حين استيقظت حوالي الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل من سبات عميق على رنين التلفون المتواصل، وتملكني شعور بأن خطأ ما قد حدث، فأخذت السماعة متثاقلاً وسمعت مدير العمليات يتعجلني بلهفة لأرافقه الى كركوك.. لم يكن جلياً ما حدث هناك.. ولكن امراً خطيراً طرأ على البئر رقم (1) في بابا كركر.
فركبنا السيارة واخذنا نطوي المسافات على بصيص من نور الفجر الباكر، وصلنا كركوك بعد ساعتين من المسير الشاق، فرأينا عن بعد عموداً هائلاً من الدخان يتعالى في الفضاء فوق البرق الحديدي القائم على البئر.. فصرخ مدير العمليات يائساً: “رباه.. النار تلتهم البئر” اما أنا فلأنني لم أر بئر نفط من قبل، آثرت الصمت على فضخ جهالتي.. ومازلت اذكر ذلك الانفعال النفسي الذي انتابني في تلك اللحظة –فأية مأساة مفجعة نستهل بها نجاحنا الاول!؟
تابعنا المسير الى منطقة البئر حيث اتصلنا بالمسؤولين وفهمنا منهم ان الحفر اوشك على الاقتراب من طبقة الزيت ولكن الوقت الذي اخترقت به هذه الطبقة استبقهم، وكانت مفاجأة مربكة، اذ تطايرت معدات الحفر من البئر مع نفثات الزيت.. وقد تنفسنا الصعداء آنذاك لما علمنا ان ما خلناه ناراً عن بعد، لم يكن في الواقع سوى نفط يندفع الى علو مئة وخمسين قدماً في الجو من جراء ضغط الغاز الكامن في بطن الارض.
انه لمشهد رائع حقاً ان يقف المرء في مكان قصي، يراقب هذا النفاث الثائر يتساقط الزيت منه بشكل سحب هائجة، ترافقه ضوضاء تصم الاذان، كأنما هي اصوات تنبعث من مئات محركات القلاع الطائرة.
لكنه في نفس الوقت، موقف حرج، كان علينا خلاله ان نستعد لتلافي خسائرنا من الزيت، واضرار الاهلين اذا ما طغى هذا السيل الجارف على اراضيهم فخرب مساكنهم، واتلف مزروعاتهم، ولوث مياه الشرب، فعقدت الاجتماعات فوراً بين السلطات وممثلي الشركة، كانت المعضلة في ايجاد حل لاقفال البئر، فقد كان موقعها يعلو احد المنخفضات التي تجري عليها مياه السيول من سفوح المرتفعات الى قلب الصحراء حيث يتدفق الزيت بمعدل عشرة الاف طن في اليوم الواحد (كما عرفنا فيما بعد).
عجزنا عن تقدير قوة ضغط الغاز في جوف الارض وتحديد كمية النفط المتدفق من فوهة البئر اقضا مضاجعنا، فبمجرد معرفة القوة والكمية نتمكن من اتخاذ الحيطة اللازمة لصد طغام السيل على الاراضي.
وقررنا اقامة عدة سدود في الوادي “المعروف الان باسم وادي النفط” يبعد كل منها ميلاً واحد عن الاخر، وعلى مسافة خمسة عشر ميلاً من موقع البئر، اخترنا قطعة واسعة من الارض المنخفضة لتكون بمثابة خزان يشاد عند الضرورة، ويستوعب كل ما قد تلفظه البئر، في اسابيع عديدة، وباتخاذنا هذه الخطى الواسعة رحت اجمع العمال، اذ ان هذا العمل كان يقتضيه حوالي الالفي رجل، فاظهرت السلطات استعدادها لحشد الرجال من القرى المجاورة لمساعدتنا فيما اذا لاقينا صعوبة في ايجاد العدد الكافي منهم، ولحسن الحظ ان العدد المطلوب توفر لنا دون عناء، فقد قمت بزيارة شيوخ عشيرة جبر المتجمعة حول نهر الزاب وعشيرة عبيد المنتشرة في سهل هاويجا، وما لبث العمال ان توافدوا على كركوك من مختلف الانحاء، فنقلنا بعضهم بسياراتنا اما القسم الاكبر منهم فقد مشى الطريق كلها، ومنهم من قطع مسافة اربعين ميلاً سيراً على الاقدام.