المحسن الكبير كان مجرماً كبيراً أيضاً!

874

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

كانت ولاية بغداد في سنة احدى وثلاثين وثمان مئة وألف قد تهيأ فيها الحال لتقلب صفحة جديدة من تاريخها الحافل بالمآسي والملمات، فقد تهيأت الظروف لعلي باشا والي حلب لان يدخل بغداد فاتحاً ومحرراً، بعد ان صدرت الاوامر بذلك وجهز بالمبالغ والجيوش، ولم يكن من الممكن لعلي رضا باشا، بالجيش الهزيل الذي زحف على رأسه الى بغداد، ان يفتحها ويتغلب على دواد باشا وقواته لولا ان تهب الى نجدته الاقدار وتمهد له الطريق عوارض الطبيعة وايدي الحوادث، ففي الوقت الذي وصل فيه الى الموصل واخذ يعد العدة للزحف على البلاد، والقضاء على دولة المماليك فيها الى الابد، داهم العاصمة العريقة طاعون مخيف قضى على الآلاف المؤلفة من سكانها في أيام معدودة وصيرها خرابا وبينما كان الطاعون الوبيل يأخذ بخناقها ويمتص عصارة الحياة من اوصالها، وفي الوقت الذي كانت تصارع فيه هذا الشر وحيدة فريدة في الميدان، ضجت الطبيعة فطغى دجلة الجبار طغيانه المعروف ففاضت لججه المتدفقة في أزقة المدينة وحواريها الضيقة فتهدمت بسببها سبعة آلاف دار في يوم واحد وتلتها مئات عديدة اخرى بعد ذلك، وقضت على من كان فيها من السكان الفزعين.

ومع هذا لم يجد علي رضا باشا حينما احاط ببغداد على اثر ذلك من السهل عليه ان يفتح العاصمة المهيضة فتطاولت ايام الحصار عليه ولم يتم الفتح في الاخير الا بالحيل والخيانة المدبرة.

وحينها بادر الى تنفيذ الخطة الموضوعة له في الحال واخذ يستعد للقضاء على المماليك باجمعهم واستصفاء ما كانوا قد جمعوه من ثروة وممتلكات خلال السنين التسعين التي حكموا العراق فيها وكان عليه بعد هذا أن يبعث بكل ما يتجمع من المال بهذه الطريقة الى الخزانة الهمايونية في الباب العالي لتنفس به عن ضائقتها المالية الخانقة وتخفف عن اعبائها.

غير ان الرياح تجري بما لاتشتهي السفن فقد تبين لعلي رضا باشا وعارف افندي الدفتري مبعوث الباب العالي لهذه المهمة ان كثيرا من الثروة التي كان يحلم بها اولياء الامور في دار السعادة قد تبددت وعبث بها ونهب قسم غير يسير منها خلال الحوادث الرهيبة التي رافقت الفتح قبل استقرار الامور بها، كما وجد ان معظم السجلات والدفاتر قد فقدت خلال تلك الحوادث المؤسفة كذلك ولم يعد من الممكن التأكد من أشياء كثيرة ومع هذا فقد وجد علي رضا باشا نفسه مجبراً على تدبير مبالبغ طائلة من المال في كل سنة لسد الافواه الفاغرة في استانبول واشباع جشعه، ولذلك فكر في طرق ووسائل اخرى يبتز بها الاموال من أهلها، ويعتصرها من بلاد منكوبة وسكان من زوين وانتخب من اجلها اناسا ماتت ضمائرهم وتجردوا من كل ما يمت الى الشفقة والرحمة الانسانية بسبب جلاوزة قست قلوبهم وتبلدت مشاعرهم فأرخى لهم العنان وترك لهم الحبل على الغارب وراحوا يظلامون الناس ويصادرون اموالهم ويبتدعون الوسائل المختلفة والضرائب التي لم يألفها السكان لابتزاز ما يمتلكونه من ثروة او عقار.

وقد عرف في عهده عدد من هؤلاء الجلاوزة ممن تخلدت اسماؤهم في صفحات التاريخ باحرف الخزي والعار من امثال الملا علي كاتب مقاطعة الخالص ومحمد الليلاني وعلي آغا اليسرجي وحمدي بك وعبد القادر الكمركجي والحاج سعد النائب وعثمان سيفي بك، ولكل من هؤلاء سجل حافل بانواع شتى من أعمال الظلم والجور، ووسائل الارهاب والتعذيب التي كانت تستعمل لاستخراج الاموال المدفونة من مخابئها وابتزاز المبالغ القليلة والكثيرة من كل من كان يوقعه حظه السيئ في قبضة ايديهم، على انني ساكتفي هنا بسرد ما عثرت عليه عن أحدهم في هذا الشأن وهو الملا علي كاتب مقاطعة خالص.

فقد كان الملا علي هذا كاتبا صغيرا من أصل حقير يمت بصلة غامضة الى بعض القبائل غير العربية في لواء ديالى وكان دميم الخلقة قميء الشكل قبيح المنظر تبدو في نظراته وقسماته مخائل القوة وامارات المكر، فتسنى له في غفلة من الزمن ان يكون معتمد الباشا الوالي وموضع ثقته فقدمه على غيره وعهد اليه بابتزاز الاموال وجمع الضرائب بعد ان جربه في ملاحقة المماليك واستصفاء ثرواتهم وممتلاكاتهم فقد تفنن مع جمع كريه من امثاله في الاضطلاع بهذه المهمة، وصادروا البيوت واخذوا يعتدون على النساء المخدرات فيسومونهن انواع القسوة والعذاب كما فعلوا في بيت رضوان اغا المفتول في مجزرة المماليك فقد ضربوا زوجته بالفلقة وكووا جسمها بالسياخ لاستخراج ما كان عندها من ثروة ومال.

ثم جعل بيده (ميري) العشائر حتى صار رجلا مخيفا يحسب له الحساب في مجالس بغداد وانديتها واخذ البعض من رجوعها واشرافها يكرمونه وينزلفون اليه ترضية للباشا الوالي.

وميري العشائر هذا هو الخاته او ضريبة البيبتية التي كانت فرض على كل فرد منهم بمقدار خمسة عشر قرشا للشخص الواحد لكن ملا علي حينما تولى الامر ضاعف هذه الضريبة اضعافا كثيرة ولذلك فكثيراً ما كان يعجز الفلاحون وغيرهم من رجال العشائر عن دفع هذه الضريبة المرهقة فيعمد الملا الى مقابلته باشد من ذلك ظلما وقسوة، فقد كان يخرج اليهم فيغصب ممتلكاتهم من دون رادع ويصادر اغنامهم وسائر حيواناتهم ودوابهم فيبيعها بيعا اجباريا في المدن والقرى باضعاف اثمانها وقيمتها وكثيرا ما كان يبيع الاغنام بهذه الكيفية على جزاري بغداد وقصابيها ويرمي بالبقر على اهل البساتين وقد تجاوز هذا الحد فيجبر اصحاب الدكاكين في اسواق بغداد على شراء هذا البقر والجاموس باضعاف قيمته من دون ان تكون لهم حاجة به او ان يكونوا قادرين على ايجاد المأوى اللازم له في بيوتهم هؤلاء يدورون به في الطرقات والازقة وهم حائرون ببيعه وعاجزون عن التخلص من اعبائه ومصاريفه. وحينما كان يعجز عن ايجاد شيء يستحق المصادرة كان الملا علي يعمد الى حبس الناس في بيته وضربهم ضربا مبرحا ولا يطلق سراحهم حتى يكون بوسعهم تدبير المال المطلوب ببيع ملك يملكونه او بالاستدانة الصعبة وهم في سجنهم عنده، ولم يكن يكتفي بذلك فقد وانما كان يقصد الميدان المعروف ببغداد ايضا ويدور في الطرق والشوارع حتى اذا ما وجد فرسا جميلة او مهرا اصيلا صادره من صاحبة عنوة واخذه لنفسه بكل وسيلة وقد اغتصب بهذه الطريقة عددا من الخيول الاصيلة المعروفة التي كانت تعود الى البعض من المشايخ العرب وسراة الناس، من دون ان يكونوا قادرين على الاعتراض او الممانعة.

ولم يكن ملا علي يتورع في اعماله هذه عن اقتراف اية جريمة او مخالفة ولم يشمل باعفائه جميع من كان يستحق الاعفاء، فقد ادخل الهاشميين الذين كانوا معفوين من الضرائب في العادة في قلم الميري كذلك وصار يتقاضى الضريبة منهم ايضا وبلغ به الطغيان الى حد انه اخذ يعتدى بالضرب على من يشاء في الازقة والطرقات ومما يروي عنه في هذا الشأن انه ضرب ذات يوم امرأة على الجسر كانت تعترض طريقه فاصابت ضربته منها مقتلا وماتت في الحال من دون ان يتجرأ على معاقبته احد عن هذه الجريمة لان الباشا كان يحميه ويطلق له العنان في تصرفاته.

على انه كان يجمع النقيضين في سلوكه وشخصيته على ما يبدو لانه مع هذا الظلم الفاحش كله وهذا العمل المشين المخزي كان يتصدق على بعض الفقراء من الناس ويمدهم بالعون والمال فكأنه كان يجمع الصيف والشتاء في سطح واحد على مايقال.

ولذلك لم يكن من الغريب والحالة هذه ان يجد السياح والمسافرون في ايام علي رضا باشا من امثال فرين وغيره ان البلاد كان يعم فيها الخراب وان زراعتها في بوار.

الاذاعة والتلفزيون 1-12-1965.