المكتبة العلمية في شارع المتنبي.. عقودٌ من العطاء والمعرفة
آية منصور /
مكتبات العراق معالم حضارية إبداعية تمثل ذاكرة الوطن الثقافية. في هذه الحلقة من سلسلتنا “مكتبات”، سنغوص في كنوز المكتبة العلمية، هذه المكتبة التي تأسست منذ أكثر من 30 عاماً، وما زالت حتى يومنا هذا تقاوم الزمن، لتبقى غنية بالكتب وروائح الورق المعتقة.
الكتب ليست اختياراً
لم يختر السيد عبد الوهاب الراضي لنفسه أن يكون كتبياً، أو صاحب مكتبة، ولم يختر ذلك، حسب قوله، لسبيل تحقيق طموحه المادي أو الاجتماعي، وإنما كان ذلك نتيجة لتراكمات مهنية لها جذور تمتد عميقاً في الزمن حتى خمسين عاماً خلت، إذ كان يعمل في مكتبة دار التربية العائدة لأخيه الأكبر.
– كان لدار المكتبة التربوية، التي تأسست منذ أكثر من خمسين عاماً، أثر كبير في روحي لما قدمته من خدمات ثقافية للجمهور الثقافي العراقي، وحين كنت طالباً، قضيت معظم أيامي في هذه المكتبة، حتى تجذرت علاقة خاصة لي مع الكتب ومهنتها.
توطدت علاقة الراضي بالكتب، رغم تعدد أعماله ومشاغله، بعد تخرجه في الجامعة وعمله مهندساً في وزارة الصناعة، ورغم عدم تقاطع عمله هذا مع الوضع المكتبي، بنحو مباشر أو غير مباشر، إلا أنه ارتأى التخلص من كل شيء والعودة إلى الورق وحده.
ويؤكد: أسستُ المكتبة عام 1987 في منتصف شارع المتنبي، بعد أن تخلصت من العمل الحكومي، وعملت بجهد وحرص كبيرين على أن تكون المكتبة مميزة بعناوينها وتفاصيلها الأخرى كافة.
العلم.. ثمّ كل شيء
ولكون الكتاب من أهم مصادر المعرفة والتغذية الفكرية الإنسانية، اختار عبد الوهاب الراضي اسم المكتبة “العلمية” عنواناً لمكتبته الكبيرة، إذ يؤكد أن اهتمامه بالكتب العلمية خاصة، جعله يركز عليها في مكتبته، ولأن العلم أولاً ثم يأتي تباعاً كل شيء، اختار لها هذا الاسم.
– جمعت المكتبة كل العناوين، وكانت وما زالت مشتملة على تنوع واسع في المجالات، ومن أهمها كتب اللغة والتفسير والتاريخ، ومنها كتب الطبري وابن الأثير واليعقوبي والمسعودي، والآلاف من العناوين.
علي الوردي في ضيافة المكتبة
كما يذكر أن للمكتبة العلمية روادها وضيوفها المهمين، ومنهم الطلبة والسياسيون والأكاديميون والمثقفون، وكان الكاتب والباحث الاجتماعي علي الوردي من أهم رواد هذا المكتبة، فضلاً عن الدكتور خليل ابراهيم الذي كان أول رئيس لمنظمة الطاقة الذرية العراقية، وحسين الصدر والدكتورة نبيلة عبد المنعم.
سفرة وحيدة وانفجار!
أهم المحطات المهمة في تاريخ المكتبة ومسيرتها المهنية، وأكثرها تأثيراً، كانت حين اختارت وزارة الثقافة والإعلام المكتبة العلمية عام 1989 ضمن أفضل خمس مكتبات معتمدة في العراق، يكمل لنا السيد الراضي بالقول: على هذا الأساس، وبسبب هذا الاعتراف والشهادة، سمح لهذه المكتبات بالسفر لمرة واحدة كل عام إلى خارج العراق، عندما كان السفر ممنوعاً على العراقيين بسبب الحرب.
يسترجع السيد عبد الوهاب الراضي التفجير الإجرامي الأليم لشارع المتنبي، الذي كان يبعد أقل من عشرين متراً عن موقع المكتبة العلمية ما تسبب بخراب هائل فيها، وحرق مئات الكتب، يضيف بحسرة:
– بعد التفجير تضررت المكتبة كثيراً، واحترقت المئات من الكتب كما تضرر جزء كبير من مبناها أيضاً.
كنوز حجرية في المكتبة
تشتمل المكتبة العلمية على الكثير من المطبوعات والمخطوطات النادرة، التي يعدّها من ضمن مقتنياته الشخصية، ومنها كما يقول: لدينا مخطوطات (شرح الصمدية في علم اللغة العربية)، و(البهجة المرضية في شرح الألفية)، وهي طبعة حجرية نادرة، إضافة إلى دوائر المعارف وهي شرح للأسماء الحسنى وكذلك يعد طبعة حجرية نادرة جداً.
وعلى الرغم من حصول السيد الراضي على شهادة أخرى تختلف عن الهندسة، حصل أيضاً على الدكتوراه في التاريخ من معهد التأريخ العربي، ولم تبعده شهاداته عن الكتب بسبب ولعه الشديد بها، هذا الولع الذي انتقل إلى أبنائه الذين تفرغوا لإدارة الأعمال الخاصة بالمكتبة ونجحوا في تطويرها.
عنوانات مدوّية ومؤثرة
منذ بدايات افتتاح المكتبة عام 1987، كانت أيضا داراً للنشر، كما أن السيد عبد الوهاب هو أحد أعضاء اتحاد الناشرين الدوليين والعرب، ومنذ سنوات عديدة، وتطبع “العلمية” المئات من الكتب والمصادر لتزين عالم القراءة بها.
– طبعنا المئات من الكتب، وربما ألف عنوان أو أكثر، لكن حتى هذا العدد الكبير من الكتب، يجري اختيارها بعد تمحيص وتدقيق شديدين، ولا سيما من الناحيتين العلمية والفكرية لفائدة القارئ.
ومن عنوانات المكتبة العلمية التي اضطلعت بطباعتها، كتاب (سياسة الولايات المتحدة الأميركية ومستقبل النظام الدولي) لكاتبه البروفسور حيدر علي حسين، وأبحاث تربية الطفل والمتغيرات النفسية للأستاذة في جامعة بغداد زينب محمد، فضلاً عن كتب مترجمة ومنها (خبراء السلطة في الولايات المتحدة) و(مختصر تأريخ العلم)، وجميعها مترجمة إلى اللغة العربية من قبل مترجمين عراقيين.