الملكة إليزابيث المحلِّقة فوق الأزمات بالحياد
مصطفى السعيد /
تمتعت إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا الراحلة بشعبية واسعة داخل بريطانيا وخارجها، ليس فقط لأنها الملكة المتوجة لمدة 70 عاماً لواحدة من أكبر إمبراطوريات العالم، وإن كانت الشمس قد انحسرت عنها، وإنما لأنها عاصرت الكثير من الأحداث، وحازت مكانة تمتعت فيها بالجانب الطيب من دولة كبرى، فلم يكن دورها مثار جدل، لأنها تملك ولا تحكم، وتحظى برمزية عالية، فهي رئيسة الدولة وفق الدستور البريطاني غير المكتوب، والنشيد الوطني ينتهي بعبارة “حفظ الله الملكة”، صورتها على عملات الدولة والطوابع والمعاملات الرسمية والمباني الحكومية. ولا يحصل رئيس الوزراء على الشرعية إلا حين يلتقي الملكة ويقبل يدها، وهي التي تختار رئيس الوزراء، لكنه اختيار مقيد بأن يكون حزبه قد حصل على أغلبية المقاعد في البرلمان، أو رئيس ائتلاف له الأغلبية. كما يحق للملكة -من الناحية النظرية- تسيير الجهاز الإداري للدولة، وإعلان الحرب، وإبرام السلام وقيادة الجيش، وعقد الاتفاقيات والتحالفات، والتصديق عليها.
هذه الصلاحيات الواسعة للغاية للملكة لم يبق منها إلا الجانب الشرفي، أما عملياً فإن للبرلمان ممارسة هذه الصلاحيات في الواقع. ورغم أن ذلك تهميش لدور الملكة، التي لا تملك صلاحيات حقيقية في الواقع، فإنه وضعها فوق الخلافات، فهي محايدة بين الأحزاب، وكذلك بين الدول، ولا تدلي بتصريحات في السياسة، وعندما تتحدث فإنها تلقي كلمات عامة تدعو إلى السلام والمحبة، ولا تخوض في أي سجال. تلتقي الملوك والرؤساء وتستمع إليهم، لكنها لا تخوض في جدل أو تدلي برأيها في مشكلات.
هذا الوضع، بكل مزاياه وعيوبه، وضع الملكة في مكانة روحية، فهي موجودة كرمز للدولة، لكنها لا تديرها في الواقع، فلا يصيبها ما يصيب السياسيين المتحملين لنتائج مواقفهم وقراراتهم، يعلو من يعلو، ويسقط من يسقط، وتبقى الملكة في مكانتها العالية. وهكذا حلقت إليزابيث الثانية طوال سبعين عاماً فوق الأزمات، حاضرة كرمز وطقس، لهذا يصعب تأويل مواقفها، والادعاء بأنها وقفت ضد موقف سلبي أو سياسة خاطئة، أو دافعت عن قضية أو مظلوم، فهي أيضا لم تفعل ذلك، بل تدعو إلى السلام والمحبة، لكن حكوماتها شنت الحروب وغزت الكثير من البلدان، فقد شاركت في العدوان الثلاثي على مصر، وحرب الفوكلاند ضد الأرجنتين، وغزو العراق وأفغانستان، والحرب على يوغسلافيا، وضرب ليبيا وسوريا، وأخيراً تشارك بشكل أو آخر في حرب أوكرانيا.
لم تقل الملكة كلمة واحدة ضد حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، التي ارتكبت الكثير من الفظائع، وعندما جرى الكشف عن فظائع ارتكبها الاحتلال البريطاني في كندا بحق أطفال السكان الأصليين، الذين كان يجري إلحاقهم قسراً بمدارس داخلية لمحو ثقافتهم الأصلية، وتعرضوا للتعذيب والقتل، وجرى اكتشاف المئات من رفاتاتهم، لم تقدم الملكة أي اعتذار أو تعليق على الجريمة التي هزت وجدان العالم، رغم مطالبة السكان الأصليين بأن يصدر اعتذار من الملكة إليزابيث شخصيا، لكنها التزمت الصمت كالعادة، فهي بمنأى عن الممارسات ولا تتحمل أي نقد ولا يحق قانونياً مقاضاتها، بينما يمكن مقاضاة الحكومة، أو نقدها أو الإطاحة بها، لكن الملكة تلتزم الحياد سواء كان سلبياً أو إيجابياً، لهذا لا ينبغي تأويل عدم زيارتها لإسرائيل، فالزيارات التي يمكن أن تدخل الملكة في أي جدل تنأى بنفسها عنها، وتنفذ نصائح وزارة الخارجية في هذا الصدد، وكان رأي الخارجية أن زيارة الملكة لإسرائيل يمكن أن يضع الملكة في دائرة الخلافات، سواء من جانب العرب أو اليهود، لأن كل كلمة أو حركة ستكون لها تفسيرات متباينة، لهذا فقط لم تذهب الملكة إلى إسرائيل، ليس مقاطعة أو رفضاً لسياسات إسرائيل، لأنها استقبلت عدداً من رؤساء الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين في قصرها، ولم يصدر منها أي تصريح مناصر أو متعاطف مع الفلسطينيين، لكنها تأويلات لكلام عام عن أماني السلام والعيش الكريم لشعوب المنطقة.
لقد حافظت الملكة الراحلة على صورتها البعيدة عن الاستقطاب والجدل، وتجاهلت أية انتقادات تمس أسرتها، سواء ما يتعلق بطلاق أميرات، أو علاقات خارج الزواج، وتحرص على أن تكون بعيدة عن تلك التجاذبات، وتتصرف وكأنها لم تسمع بها، وإن كان المؤكد أنها داخل القصر تهتم كثيراً بتكريس الصورة المثالية للعائلة المالكة، وتسعى إلى فرض قيود صارمة على الأمراء والأميرات، ونجد ذلك في مذكرات عدد من أفراد الأسرة المالكة، وتصريحات الأميرة الراحلة والمحبوبة ديانا قبل نهايتها المأساوية في حادث سيارة مع صديقها دودي الفايد، الذي أثار الكثير من التكهنات. المؤكد أن الملكة إليزابيث سعت طوال حكمها الطويل في أن تحافظ على الحياد الكامل في القضايا الداخلية والخارجية، ومن بينها القضية الفلسطينية، التي لا ينبغي مساءلة ملكة لا تحكم لكنها رمز لدولة، وعلينا تقييم مواقف تلك الدولة من قضايانا، وليس من رمزها المفرغ من أية مسؤولية وأية صلاحيات حقيقية.