جبران تويني صاحب جريدة النهار: في الطريق إلى بغداد أيام انقلاب بكر صدقي!

668

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

زار عاصمة العراق قبل ايام قليلة الاستاذ الكبير والصحافي القدير جبران تويني صاحب جريدة النهار البيروتية الغراء ورئيس تحريرها، وقد مكث الاستاذ في عاصمة العراق بضعة ايام ثم عاد الى بيروت، وأخذ ينشر في جريدته رسائل عن بغداد والعراق.

وقد أحببنا أن ننشر هذه الرسائل للقراء تباعاً ليطلعوا على ما يقول الاستاذ الكبير في هذه البلاد وهذه الرسالة الاولى:

– اعط الاستاذ الغرفة 213

فقلت لمدير الفندق في دمشق: لماذا اخترت لي هذا الرقم المشؤوم؟

– ان عهد التشاؤم قد انقضى يا استاذ واصبح الناس يتفاءلون بهذا الرقم.

وصعدت الى الغرفة 213، يوم الاثنين 26 تشرين الاول-مرتان2 – انتظر صباح الثلاثاء لأركب سيارة “نرن” الى بغداد فلما حدث الانقلاب العسكري يوم الخميس 29 تشرين الاول- أي بعد ثلاثة ايام من السفر- ذكرت رقم الغرفة في دمشق، وذكرت قصة ابن الرومي الذي كان كثير التشاؤم، ورحت ابحث، بعد وصولي يوم تلقي رجلاً، فتطير منه وعاد الى منزله فلزمه ثلاثة عشر يوماً!
في الطريق!..

ولكن هل كان الانقلاب يا ترى شؤوما انذرنا به الرقم 12؟

اذا كان الانقلاب شؤوما للدرجة التي احدثها وللدم الذي سفكه، فلعل فيه فألا لليقظة التي احدثها في العراقيين، ففتح عيونهم وعيون العرب على آفاق جديدة.

ودرجت بنا سيارة “نرن” في طريق بغداد الساعة السابعة من صباح الثلاثاء، وكان على مقودها سائق طويل القامة، اشقر اللون، يرطن بالانكليزية فنحسبه من ابناء “التاميز” فلما وصلنا الى مخفر ابي الشامات، وقفت السيارة ونزلنا لانهاء معاملات الجوازات، فكان المأمورون والمسافرون ينادون السائق: جاك، جاك، فيقبل عليهم ويحدثهم فحسبته مستشرقاً انكليزياً تنكر بثياب السائق لخدمة بلاده.. واذا به فجأة يتكلم بالعربية.

ولشدة ما كانت دهشتي عندما علمت ان جاك، انما هو لبناني صميم من عائلة ابي صادر في ضهور الشوبر وانه من اوائل السائقين الذين فتحوا طريق الصحراء منذ ثمانية عشر عاماً.

فعجبت لقابلية اللبناني على التنكر، ومقدرته على الظهور بمظهر الانكليزي، او العرنسوي، كما يشاء. ووددت أن يحتفظ بعروبته، و”يتقن” الاحتفاظ بها، كما “يتقن” التنكر بالجنسيات الغربية، فان “ثوب العيارة لا يدفئ” كما نقول الامثال، ولكن جاك لا ينفر من الاعتزاز بقوميته كما يفعل اولئك المنفرجون”

وظلت السيارة “تطوي البيد طياً” كما يقول ابن الفارض، وليس في هذه البيد من مظاهر الحياة غير نبات الشبح والقيصوم، وبعض الاعشاب التي أكسبها الغبار لوناً قاتماً، ومررنا في الطريق بقطعة بيضاء من الارض، سرنا فيها زهاه ساعتين تشبه “البلياردو” بدقة استوائها، وهي تسمى الطليحة.

ومن الغريب انك قبل ان تصل الى بغداد تجد بقعة مثلها في البياض ودقة الاستواء، تسمى الطليحة ايضاً، فكأن القطعتين محوران متشابهان تدلان على وحدة التكوين الجيولوجي لهذه الصحراء الفسيحة، التي أقامت فيها السياحة دولتين، يصعب على المسافر أن يميز ما بينهما من حدود، لولا الحدود الاصطناعية التي اقامتها يد السياسة ويد الانسان.

ومرت بنا اثناء الطريق غزالة شاردة كانت تسابق السيارة، فاتجهت اليها انظار الركب تشهد هذا السباق بين غزالة وسيارة، وكان اكثرنا اهتماماً بالغزالة سيدة يابانية “جمدت” عيناها في الغزالة الشاردة، وكانت تتدلى من السيارة وهي ترافقها في عدوها.. ولعلها ارادت ان تقارن بين عيني الغزالة التي يتغنى بها الشعراء، وبين “اليابانيتين”!

في الرطبة

وبعد ان تناولنا غداء ناشفاً في السيارة، استأنفنا السير في الصحراء، فكنا نمر باعلام اقيمت للاهتداء، وكان آخر علم وقفنا عنده عمود اقيم في منطقة تدعى “التنف” تدرج منه السيارة الى طريق توصل الى تدمر، ومررنا بعدئذ بمنطقة تدعى “السبع ابيار” هي آخر حدود سوريا.

فشهدنا فيها من بعيد بناء صغيراً يحتله الدرك الفرنسوي، وفيه محطة لاسلكية.

وكانت الساعة قد قاربت الخامسة عندما اشرفنا على الرطبة، وهي اول محطة عراقية في الطريق فأبصرنا، من بعيد انوار اللاسلكي معلقة في الافق كالنجوم، وحين اقبلنا على المحطة وجدنا انفسنا في منطقة صحراوية جعل منها العلم محلة حافلة بكل اسباب العمران، ففيها الماء والكهرباء، والمطار المدني ومستودع البنزين، وفيها التلفون والبرق والبريد، وفيها جيش من الهجانة والفرسان وفيها مصفحات ودبابات.
ووجدنا فيها ايضاً الرئيس محمد الياسين!

استقبلنا الرئيس “كبتن” بلهجته العربية الصحيحة وطاف بنا انحاء “مملكته” الصغيرة، فشعرنا انننا في منطقة عربية خالصة، تسيطر عليها حكومة عربية خالصة، لا أثر فيها لأجنبي اللهم الا ما انتجه علم الاجانب فاستفاد منه العرب، ونقلوه اليهم، بدلاً من ان ينتقلوا اليه!..

والعلم مشاع لبني الانسان

وجلس الرئيس محمد الياسين محدثنا عن العشائر ومشاكلها، وتنقلها من حدود العراق الى حدود سوريا، الى حدود نجد، الى حدود شرقي الاردن، وروي لنا عن المؤتمرات التي تعقدها السلطات المحلية لفض مشاكل العشائر، وكيف يحضر هو الضابط العربي، عن العراق، ويحضر الفرنسيون عن سوريا، ويكون الموظفون السوريون “بمعيتهم” لا يجرأون على الكلام

وختم احاديثه الفكهة بقوله:

نحن نتمنى لسوريا الاستقلال، حتى تصبح مثلنا، فتناقش في مؤتمراتنا مع اخواننا العرب “ونغسل اثوابنا” فيما بيننا فقلنا له ان سوريا سائرة في الطريق حقق الله تمنياتك، يا محمد الياسين، وآمالها الصحيحة في الاستقلال!..

جبران تويني