جريمةٌ بحقِّ الإنسانية

863

رجاء خضير /

(ملاحظة: هي ليست جريمة فعلاً أو ماشابه, لكنها معنوياً جريمة بحق الإنسانية)
عجزتُ أن أرسم طريقي المستقبلي, وها أنا أرسم طرقات متشابكات بلا وضوح ولا دليل يوصلني الى غايتي, فكرتُ مراراً من أية فصيلة أنا, والأسوأ أني لم أعرف الإجابة التي حيرتني لسنوات. لاتتهمونني بأنني بلهاء,
فالليل يلفني بخيوطه من كل جانب. وفجأة لاح لي ضوء الفجر الذي أشعرني بالسعادة والأمان وبدأت أرى طرقاتي قد فكّت اشتباكاتها وتوضحت لي النهاية التي اتمناها… فهل أصلها بسلام؟
قالت بصوت خافت: عشت طفولة سعيدة وسط أهلي، إذ كنتُ المدللة لكوني الصغرى، دلال جعلني اتلكأ في دراستي لسنوات، لكنني واصلتها بعد أن رأيتُ صديقاتي قد دخلن كليات مختلفة. ثابرتُ على الدراسة وبمساعدة أمي استطعت إكمال دراستي الإعدادية ثم قُبلت في إحدى الجامعات القريبة من بيتنا. فرحنا أنا وأمي بذلك كثيراً, لأن إخوتي قد تزوجوا جميعهم وبقيت أمي وحيدة بعد وفاة والدي, لذا وقعت عليّ مسؤوليتها ورعايتها, أكملتُ الجامعة ووجدتُ فرصة عمل في إحدى الدوائر وبمساعدة ابنة خالتي التي كانت تتبوأ منصباً فيها, كنت أقول لأمي هذا بفضل دعائك يا أمي…
كانت حياتي تنصب في العمل والبيت مع أمي…
أما أخواتي فكن يأتين لزيارتنا ورؤية أمي ويذهبن مطمئنات لأنني معها, وإخوتي الذكور يكتفون بالسؤال عنا هاتفياً باستثناء المناسبات حين يأتون لسويعات ويذهبون…
في يوم زارتني صديقة في البيت, اعتذرت أمي منها ودخلت غرفتها لترتاح, بقينا أنا وهي وتناولنا مواضيع عدة, ثم سألتني لماذا لم أتزوج إلى الآن, وذكّرتني بأنني شارفتُ على الأربعين من عمري، أجبتها… كيف أترك أمي وأتزوج؟؟
قالت وبصراحة: لماذا لم يفكر بقية إخوتك بها, وبك أيضاً…
خرجت وبقيت أنا مع أفكاري, لقد زرعت فيّ شيئاً ما: لقد تفجرت أنوثتي الصامتة واشتاق القلب الى رفيق أحسُ بهِ ويحبني وأحبهُ، إذن.. الصديقة فكرت بي وبمستقبلي!
لماذا إذن إخوتي وأخواتي لم يفكروا مثلها؟ بعد أيام من هذا اللقاء جاء أحدهم إليّ في مكتبي أعرف أنه موظف في قسم آخر, طلب مني الإذن في محادثتي, عرفتُ أنه يرغب بي زوجة وأنني إذا وافقت فسيتقدم لأهلي فوراً, طلبتُ منه أن يدعني أفكر بالأمر, واستذكرت ما قالته صديقتي (كلما تقدمت الفتاة بالعمر تقلُ فرص زواجها)…
خشيتُ طرح الموضوع على أمي لئلا تفكر بأنني تعبتُ من رعايتها, وهي التي أفنت عمرها في تربيتنا ورعايتنا, وفكرت أن أتحدث مع شقيقاتي أولاً, وفعلاً استشرتهن بما أفكر فيه, ورأيت الامتعاض على وجوههن وبأنهن غير موافقات على ذلك والسبب أمي منْ يرعاها ومنْ يبقى معها…
تحدثت مع صديقتي(….) التي نصحتني أن اتفق معهن لرعاية أمنا, فالجميع بمن فيهم إخوتي عليهم واجب لأهتمام بأمنا: وليس أنا فقط. في بيت أختي الكبيرة وبعيداً عن علم أمي اجتمعنا جميعاً وطرحتُ الموضوع عليهم… لم يدعني شقيقي الكبير أكمل, قال هل تريدين الزواج وأنتِ في الأربعين من عمركِ! ألم تفكري بأمنا, ولم أعرف من أين أتتني الجرأة لأقول له وللجميع: وأنتم ماذا قدمتم لأمكم, هي أمكم مثلما هي أمي، كل واحد منكم شق طريقه وأسس له عائلة وأولاد: ألم تفكروا بي، بعد عمر طويل لأمي، ماذا سيكون مصيري بعدها؟
لم تفكروا بي جميعاً, ماتريدونه مني أن أرعى أمنا وأسهر عليها، وهذا واجب الجميع. عدت
إلى بيتنا لأرتمي في أحضان أمي وبكيتُ, استغربت من موقفي هذا وسألتني عن سبب حزني وبكائي، لم أجبها خشية على مشاعرها، لكن أختي الكبرى، ومعها أخي الأكبر، اللذين لحقا بي قالا لها… تريد أن تتزوج وتتركك!
دار نقاش عنيف بيننا, صوت أمي أسكتنا جميعاً حينما قالت: لها القرار, ثم أنها لم تقصر نحوي بأي شيء: وأنتم ماذا فعلتم لي يا أبنائي؟ تأتون لزيارتي بين فترة وأخرى في المناسبات, لاتعرفون متى أمرض, لاتعرفون شيئاً عن معاناتي جراء الوحدة والمرض, هي فقط من تحملتني طوال هذه السنوات, والآن تمنعونها من العيش كما تعيش الفتيات لتحقق أحلامها مع منْ اختارها وهي بهذا العمر.
تركتنا ودخلت غرفتها, لحقتُ بها واحتضنتها, وقلت لها: لن اتركك يا أمي أبداً, أجابت وبصوت عالٍ سمعه الجميع: لا, أنا أنصحك بالزواج وأن لاتفكري بي… ضحيتِ كثيراً وآن لك أن ترتاحي في سنواتك الباقية, ولكن اقترحي عليه أن تعيشا معي!!
خرج جميع إخوتي من بيتنا متذمرين ومعارضين لمِا اقترحته أمي…
حدثتهُ في اليوم التالي بتفاصيل حياتي ورغبة أمي و…و…
سألني منذُ متى طلبتُ يدك للزواج؟
اجبتهُ: منذ فترة!!
قال: حينما لم تردِي عليّ ظننتك لا تقبلين بي! لذا خطبتُ فتاة أخرى ونحن نستعد للزواج.
خرجتُ من مكتبهِ وأنا أتعثر بخطواتي كيف أواجه هذا الموقف؟ ماذا سأقول لأمي؟
كيف سأواجه نفسي وكيف أقنعها بأن فرصتي الأخيرة قد ضاعت مني؟
ليفرح إخوتي بالخبر هذا،
ولأبقى أنا والمئات مثلي في مجتمعنا, ممن يدفعن سنواتهن ثمناً لأنانية بقية الأشقاء والشقيقات الذين يبنون سعادتهم وراحتهم في سبيل ضياع فرص السعادة والراحة لمثلِنا في الحياة…
لنا الله… لنا الله