“حربٌ باردة”.. الحياة خلف الستار الحديدي للمعسكر الإشتراكي

454

محمود الغيطاني/

يأخذنا المخرج والسيناريست البولندي بافل بافليكوفسكي في فيلمه “حرب باردة”، في رحلة عاطفية تمتد لمدة خمس عشرة سنة كاملة؛ يعرض فيها قصة ارتباط والديه العاطفية منذ بدايتها والخيبات، والفراق، والخيانة، والتعثر، وغيرها من الأمور التي مرا بها حتى باتا، بعضهما مع بعض، في نهاية الأمر. وهو في هذا العرض الزمني الطويل ينتقل بنا بين العديد من دول أوروبا الشرقية التي كانت تمثل الستار الحديدي للمعسكر الاشتراكي السابق في القرن الماضي، أي أن المخرج لم يكتف بعرض قصة حب والديه العاطفية في إطار غنائي متخم بالفن فقط، بل كانت الخلفية الآيديولوجية لهذه الفترة هي المحرك الأساس للأحداث وما كان فيها من خيبات وخيانات وفراق.
مزيد من الواقعية
حرص المخرج على التماهي مع الفترة الزمنية التي صور من خلالها الأحداث؛ ليكسبها المزيد من الواقعية، ومن ثم لجأ إلى تصوير فيلمه بالكامل بالأبيض والأسود، وهو الخيار الفني الناجح الذي أضفى على الفيلم المزيد من الفنية والواقعية بالفعل؛ حتى إننا نكاد أن نصدق أن ما يعرضه المخرج أمامنا، على الشاشة، هي قصة قد حدثت بالفعل وجرى تصويرها في حينها.
يبدأ الفيلم بمجموعة من المغنين الفقراء من أهالي الريف البولندي الذين يعزفون على آلاتهم الموسيقية البدائية ألحانهم ويغنون الأغاني الشعبية الفلكلورية؛ لنعرف أنهم يفعلون ذلك في لقاء مع الملحن فيكتور- قام بدوره المُمثل البولندي توماس كوت- وإيرينا- قامت بدورها الممثلة البولندية أجاتا كوليسا- المسؤولين عن تكوين فرقة موسيقية غنائية من أهالي الريف البولندي، وجمع التراث الشعبي الفني لبولندا.
يصاحب كل من فيكتور وإيرينا، في رحلتيهما داخل الريف البولندي من أجل جمع كنوز الثقافة الوطنية، المُدير الإداري للفرقة كاتشماريك ليخ- قام بدوره الممثل البولندي بوريس سزيك- الذي يبدو أن لديه العديد من العلاقات الوثيقة بالسياسة؛ ومن ثم فهو يكاد أن يكون رجلا أمنياً أكثر من كونه رجلاً لديه أي اهتمام بالفن أو الموسيقى والغناء.
روح العزم
يجري جمع أهل القرية بالكامل وحملهم في سيارتين ضخمتين إلى أحد القصور الضخمة في القرية وإنزالهم أمام القصر، كما يحرص المخرج على متابعة الاختبارات التي يجريها كل من فيكتور وإيرينا؛ ومن ثم نشاهد زولا- قامت بدورها الممثلة البولندية جوانا كوليج- الفتاة الشابة المنطلقة التي تحمل في داخلها روح العزم، التي تمتلك موهبة رائعة في الغناء. يتحمس فيكتور وإيرينا لزولا كثيراً وتكون من أهم أعضاء الفرقة الشعبية التي يجري تكوينها رغم أن كاتشماريك يخبرهما أنه قد اطلع على سجلها الأمني وعرف أنها ليست من سكان الجبال كما تدعي، كما أنها قد سجنت لعامين سجناً انفرادياً بسبب طعنها لأبيها بالسكين.
يجري تكوين الفرقة بالفعل ويقع فيكتور في عشق زولا، وتتوالى عروض الفرقة الموسيقية التي تلاقي النجاح في كل مكان؛ الأمر الذي يلفت نظر السلطة السياسية إليها وتعمل على رعايتها، لكن أحد المسؤولين يجتمع بكل من فيكتور وإيرينا وكاتشماريك راغباً في استغلال الفرقة من أجل الدعاية السياسية لجوزيف ستالين وروسيا، اللذين يمثلان زعماء المعسكر الاشتراكي قائلا: أعتقد أن الوقت قد حان لإدخال عناصر جديدة في البرنامج، شيء عن إصلاح الأراضي، والسلام العالمي وما يهدده، فقرة قوية عن زعيم البروليتاريا العالمية، وسوف نقدر لكم ذلك ونكافئه، في المُستقبل من يدري ربما تزورون برلين، وبراغ، وبودابست، وموسكو، لكن إيرينا تقول: نيابة عن كامل فرقتنا الفلكلورية فإننا نشكركم على تقديركم لعملنا، لكن البرنامج يعتمد أساساً على الفن الشعبي الحقيقي، وسكان الريف لا يغنون أغنيات عن الإصلاح والسلام والقيادة، هم حقاً لا يفعلون ذلك؛ لذلك سيكون هذا صعباً. لكن كاتشماريك يتدخل في الحديث باعتباره المدير الإداري للفرقة ويؤكد للمسؤول أنهم يستطيعون فعل ما يشير إليه وأنه سيكون من دواعي سرور الفرقة أن تغني لزعيم البروليتاريا، أي أنه يجري تسييس الفرقة واستغلالها من أجل الدعاية السياسية الاشتراكية رغماً عن كل من مُؤسسيها فيكتور وإيرينا.
جولة في أوروبا
يتنقل بنا المخرج بين العديد من البلدان على طول مدة فيلمه التي بدأها في بولندا عام 1949م، أي بعد فترة من انتهاء الحرب العالمية الثانية مروراً بوارسو 1951م حيث دار الحفلات الوطنية التي تقدم فيها الفرقة عرضاً من أهم عروضها، ثم برلين 1952م، وباريس 1954م، ويوغوسلافيا 1955م، وباريس مرة أخرى 1957م، وبولندا مرة أخرى 1959م لينهي فيلمه عام 1964م في بولندا، وهو من خلال هذه الانتقالات من بلدة إلى أخرى نراه حريصاً على متابعة قصة العشق بين كل من زولا وفيكتور وما يحدث فيها من تغيرات ومد وجزر ينتهي في النهاية بهما مع بعضهما بعضاً كزوجين.
بعدما تغني الفرقة لزعيم البروليتاريا وتمجد الاشتراكية يذيع صيتها بعد حفلها في وارسو؛ لذلك تدفع بها الدولة للذهاب إلى برلين من أجل تقديم حفل هناك، لكن حينما يصل فيكتور إلى برلين يخطط للهروب إلى فرنسا ويتفق مع زولا على الهروب بالفعل، إلا أنها في الموعد المتفق عليه لا تذهب إليه وتتركه يهرب وحيداً إلى فرنسا لتعود مع الفرقة إلى بولندا مرة أخرى. يعيش فيكتور هناك كملحن موسيقي وموزع، كما يعزف في أحد النوادي الليلية ويكوِّن علاقات قوية هناك. وفي عام 1954م حينما تذهب الفرقة لتقديم أحد عروضها في باريس تسعى زولا للقاء فيكتور، ويعرف أنها على علاقة مع أحد الرجال، ويحاول إبقاءها معه إلا أنها تغادر مع فرقتها للعودة إلى بولندا. في العام التالي يعرف بوجود الفرقة في يوغوسلافيا؛ فيتجه إلى هناك لمقابلتها، لكنه يقابل كاتشماريك الذي يؤكد له أنه كان لا بد له أن يكون مع الفرقة اليوم؛ نظراً لموهبته المُوسيقية بدلاً من التخلي عن الفرقة والهروب إلى فرنسا. وأثناء عرض الفرقة على المسرح يلاحظ فيكتور وجود رجلين يراقبانه، وهما الرجلان اللذان يختطفانه في سيارة بعد الحفل فيسألهما: إلى أين تأخذانني؟ فيرد أحدهما: إلى موسكو، فيتساءل: لماذا؟ أنا هنا بشكل قانوني ولدي تأشيرة، وأنا مقيم منذ مدة في فرنسا، لم أعد بولندياً؛ فيرد الرجل: حسناً، نعلم هذا، لا تتوتر؛ فلن تذهب إلى موسكو، ستذهب إلى زغرب ومن هناك إلى باريس أو أي مكان تشاء، أراد البولنديون أن نُعيدك إلى وارسو، لكن هذا ليس في مصلحتك، صحيح؟ فيقول فيكتور: دعني أبقى لليلة واحدة، لكن الرجل يقول: القطار ينتظر، ليرجوه فيكتور: أرجوك افهم، الأمر يتعلق بامرأة، إنها امرأة حياتي وحبيبتي، إلا أن الرجل يقول مهدداً بحزم: ماذا؟ هل تريد العودة إلى وارسو معها؟ ثم يقومان بإرغامه على ركوب القطار المتجه إلى زغرب من أجل العودة إلى باريس.
لقاء في باريس
في عام 1957م تنتقل زولا إلى باريس بعدما تزوجت من رجل إيطالي، وهناك تقابل فيكتور وتعود علاقتهما العاطفية إلى تأججها مرة أخرى، وتعيش معه في منزله. يعمل فيكتور على تعريف المجتمع الفرنسي بها كمغنية شهيرة، وبالفعل تغني معه في النادي الليلي الذي يعزف فيه، كما يعرِّفها على ميشيل- قام بدوره الممثل الفرنسي سيدريك خان- وهو من المنتجين المهمين الذي يتعاقد مع زولا من أجل إنتاج إسطوانة موسيقية لها، لكن زولا تبدأ في الشعور بالغيرة الشديدة من جولييت- قامت بدورها الممثلة الفرنسية جين باليبار- الشاعرة والمثقفة التي تقوم بترجمة الأغاني الشعبية البولندية التي كانت تغنيها زولا إلى الفرنسية من أجل غنائها بالفرنسية بعدما يعيد فيكتور توزيعها الموسيقي. ورغم أن جولييت لا تحاول منافسة زولا في حب فيكتور، إلا أن زولا تشعر نحوها بالكراهية والغيرة الشديدة؛ الأمر الذي يجعل فيكتور يقول لها: كفي عن ذلك.
وفي الحفل الذي كان مقاماً من أجل تعرف ميشيل على زولا وإمضاء عقد الإسطوانة الموسيقية، وبالفعل يجري إنتاج الإسطوانة، إلا أن زولا لا تشعر بأية سعادة أو بهجة، بل يسيطر عليها الكثير من مشاعر الحزن؛ ما يدفع فيكتور لسؤالها عن السبب في حزنها، إلا أنها تحاول إثارة غيرته مخبرة إياه بأنها ليست حزينة.
تختفي زولا تماماً ويبحث عنها فيكتور، وحينما لا يجدها يتجه إلى بيت ميشيل ليسأله عنها، لكن ميشيل يخبره بأنها قد عادت إلى بولندا؛ الأمر الذي يجعله لا يستطيع الحياة من دونها، ويتجه إلى السفارة البولندية مخبراً إياهم برغبته في العودة إلى بولندا رغم خطورة عودته مرة أخرى.
يعود فيكتور إلى بولندا في 1959م، لكنه يتم القبض عليه ومحاكمته والحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً؛ بسبب عبوره الحدود بشكل غير قانوني في كلا الاتجاهين، كما يجري اتهامه بالتجسس لصالح البريطانيين. تذهب زولا إلى السجن من أجل زيارته، وهناك تؤكد له أنها سوف تخرجه من السجن، وهو ما يدفعها إلى اللجوء لكاتشماريك وعلاقاته القوية بالسلطة والعديد من الوزراء، وتضطر إلى الزواج من كاتشماريك من أجل مساعدتها في خروج فيكتور من السجن، وبالفعل يحصل ذلك ويطلقون سراح فيكتور الذي يظل في بولندا غير راغب بمغادرتها وترك زولا وعشقه الشديد لها.
في عام 1964م بينما تغني زولا في إحدى الحفلات يذهب فيكتور إلى هناك، فتطلب منه أن يأخذها بعيداً ويبقى معها إلى الأبد؛ الأمر الذي يجعلهما يهربان بعيدا ويتجهان إلى إحدى الكنائس القديمة المتهدمة والمهجورة ويزوجان نفسيهما لبعضهما بعضاً في هذه الكنيسة لتخبره زولا أنها قد باتت ملكه منذ هذه اللحظة وإلى الأبد، لينتهي الفيلم على مشهدهما جالسين في الحقول المحيطة بالكنيسة التي تزوجا فيها للتو بينما يتأملان الأفق من حولهما.
إن الفيلم البولندي “حرب باردة” للمُخرج بافل بافليكوفيسكي ليس مجرد قصة حب متأججة بين رجل وامرأة واجهت الكثير من المد والجزر والفراق والخيانة ثم العودة مرة أخرى، بل هو شهادة على المعسكر الاشتراكي بالكامل وما كان يدور فيه من فساد واستغلال للسلطات باسم العدالة الاجتماعية، وحكم الفرد الذي يقضي تماماً على الحريات الشخصية؛ الأمر الذي يدفع الكثيرين من أبناء هذه المجتمعات إلى الهروب منها إلى دول أخرى لا تكون بالنسبة لهم سوى منفى ضخم وكبير لا يمكن لهم الشعور فيه بالسعادة، بل هم يتركون حيواتهم وعشقهم وحبهم من أجل الهروب من الجحيم الاشتراكي الذي يعيشون فيه وحكم الفرد الديكتاتوري الذي من الممكن له أن يطيح بحياة أي فرد من أفراد هذه المجتمعات إذا ما اعترض على ما يدور فيه من قمع باسم الاشتراكية.