حمّامات العمارة شواهدٌ على طقوس الناس وذكريات المدينة

1٬120

نصير الشيخ/
في النهايات القريبة لسوق العمارة الكبير، وبين محال النجارين وبضعة دكاكين قديمة تحترف الصناعات الشعبية بطرق يدوية بسيطة، تأخذنا خطانا الى معلم ترتخي أركانه وكأنه يشير إلينا بتاريخ مضى وحضور على وشك الرحيل، لكن عواصف الزمن تجري مسرعة على جنباته. إنه “حمام الحيدري للرجال”، الذي شيد في ثلاثينيات القرن الماضي..
وبرغم كل تلك السنين، يظل حمّام الحيدري شاهد عصرٍ وملتقى الوافدين إليه من أصحاب الدكاكين والمحال المجاورة، وهم يستمتعون بـ “طقس” الاستحمام بين جنباته وتحت “كورته”، وذلك لموقعه الجغرافي في السوق القديم، حيث يستقبلك من وراء منضدة إدارة الحمّام الصغيرة السيد محمد عجيل، الذي آلت إليه إدارة الحمّام من والده، وهو يقوم أيضاً بمهمة “المدلكجي”..!!
طراز قديم
يضم الحمّام صالة متوسطة تحتوي على مصاطب لجلوس الزبائن، وعلى الجدران علقت خزانات معدنية توضع فيها ملابس وحاجيات المستحمين. بني الحمام بطريقة هندسية، إذ أن جدرانه تحتفظ بالحرارة اللازمة، وهي -أي الجدران- تكون سميكة، وفي الجدار العلوي هناك منافذ للهواء وفتحات لتصريف البخار. ندخل “الكبة”، أي مكان الاستحمام، جدرانها مطلية بمادتي الجص والنورة للحفاظ على درجة الحرارة. وهناك أواوين ومقصورات خاصة للاغتسال، تحتوي على أوانٍ حجرية أشبه بالقدور يوضع فيها الماء ويخلط حاراً وبارداً ليكون جاهزاً للاستحمام، مع مقاعد حجرية لجلوس المستحم، استبدلت الآن بمقاعد بلاستيكية.
وحمام الحيدري كان بقسمين (رجالي ونسائي)، وهو من الأبنية اليهودية في طرازه القديم، إذ يحتوي من الداخل على “الكبة” و”نور خانه”، وكانت “الكبة” وبحسب ما تناقله الرواة القدامى، تبنى من مواد أولية أولها الطين الحري الذي يخلط مع صفار البيض كي يكون متماسكاً لمثل هذه المهمة. الأحواض الصغيرة في الغرف يسكب فيها الماء الحار مكوناً بخاراً كثيفا يملأ “الكبة” ما ينشط الدورة الدموية للجسم. وتعد “المناشف” جزءاً أساسياً في عملية التحميم للزبون بعد الاغتسال، كذلك ارتداء “البرنص” للمحافظة على حرارة الجسم.
كانت هناك حمّامات عديدة في مدينة العمارة، لعل أولها وأقدمها “حمّام الحيدري”، الذي كان اسمه سابقاً “حمّام الإسلام” وسمي بالحيدري لأن أعداداً كبيرة من المطبرين في ليلة العاشر من عاشوراء المحرم يدخلون للاغتسال فيه ومحو آثار الدم من رؤوسهم.
الحمّام الثاني هو “حمّام الشرق”، والثالث “حمام السَنيةْ”، والحمّام الرابع “حمّام الخالدي” وسط شارع المعارف سابقاً، والحمّام الخامس “حمّام السوارية” في محلة السرية.
رواد الحمامات
للحمّامات روادها، ولاسيما يومي الخميس والجمعة، وظل طقس ارتياد الحمّام من قبل العريس قبل زفافه مع أصدقائه للاستحمام في حمام الحيدري طقساً طبيعياً له نكهة خاصة. يقول السيد محمد عجيل: “نقدم للزبائن هنا الشاي والدارسين وشراب الورد، وهناك زبائن من الشخصيات العمارية القديرة دائمة التردد للاستحمام هنا مثل: سلمان فالح والحاج حسن مودة والحاج سوزة وآخرين.. وأنا أقوم هنا بمهمة “المدلكجي” حين يطلب مني الزبون، ومن أبرز الدلاكين علي الأسود وسلمان عبدوش وصبيح كاظم، وهذه المهمة تتلخص بمد جسم الزبون المستحم على صبة حجرية تتوسط كورة الحمام، لتدليك جسمه كاملاً.”
متعة وعلاج
يحدثنا ضياء سعيد عن حمّام الحيدري قائلاً: “منذ الصغر كنت أرتاد هذا الحمّام برفقة والدي للاستحمام ظهيرة كل جمعة، وكنا نفضله على سواه لكونه قريباً من محلنا لبيع المواد الإنشائية، وللاستحمام في حمام السوق متعة وفوائد لعلاج الكثير من الحالات، لاسيما عضلات الجسم وتشنجاته، وهذا الحمّام من أقدم الحمّامات في مدينة العمارة، وكان الى جانبه حمام آخر للنساء لكن جرى هدمه، الحقيقة أننا نشعر بألفة حين نزور هذا الحمّام، كبناء تراثي في سوق العمارة، معجبين بطراز بنائه، أتمنى على الجهات المعنية الالتفات الى هذا المكان وإعادة ترميمه كمعلم اجتماعي.”