د.جواد الأسدي.. رجل الزخرفة في الزمن الضرير

966

أحمد هاتف /

مذ أفردت مواهبنا جناحاتها كان رفاق المسرح يشربون أصواتهم في مساءات السكن الداخلي.. يتداولون تلك الأسماء التي تحرّكهم مثل وقود المحركات.. من سنة مبكرة هناك.. شغفنا شكسبير وجينيه وابسن ويونيل وإبراهيم جلال وعوني كرومي وجاسم العبودي.. وكان كلما أراد الرفاق السخرية من مغرور يرى في نفسه أكثر مما فيها قالوا: “على ساس هو جواد الأسدي” .. ظل ذاك الاسم يجول في خواطرنا.. مثله مثل مظفر النواب وسعدي يوسف وغائب طعمه فرمان..
كنت أرى صور ذاك المخرج الوسيم في بعض مسربات المجلات الفنية.. لم يكن الوصول إلى جواد الأسدي سهلاً؛ فهو دمشقي الهوى يوم كانت دمشق خطاً أحمر على عراقيي الداخل.. لذا كنا نتسقَّط أخباره عن بعد باعتباره أبا النجومية والحداثة في المسرح العربي.. قيل هو نجم المختبر المسرحي.. وهو أيقونة تجريبية غاية في السعة.. ويوم وضع نظام بغداد خطاً أحمر تحت اسمي.. هربت إلى الدوحة، لأقدَّم هناك ثاني تجاربي المسرحية تأليفا.. وفي ختام العرض صعد جواد الأسدي ليعانقني ويشدّ على يدي ويبتهج بي.. يومها عرفت الأسدي عن قرب، إنسانا وفنانا وأسطورة… لكن صورة الأسدي ستظل ناقصة دون دمشق ورحلته وربّما منفاه الاختياري هناك.. حيث اشتبكت تجربته بتجربة قطبين كبيرين هما ممدوح عدوان “منفاه الجمالي” وسعد الله ونوس “وطنه المرادف”.. هناك في أوان تفتح المدينة أفرد الأسدي عباءته وألقى أثقال رحلاته ليتدوزن وهواء المدينة وظلالها ومجانينها وثقافتها الصارمة ومنطقيتها التي تصل حدود الإفراط..هناك بين أبواب مقاهيها العتيقة وأزقتها الحانية..شرع يكتب مدائح أسطورته مع غسان مسعود فايز قزق نضال سيجري وآخرين.. بدأ بصوته المتهدّج ساكبا تجربته بين المعهد العالي للفنون المسرحية والخشبة.. كانت دمشق بحاجة للأسدي وكان الأسدي بحاجة إلى مران جموحه الذي أثرى أفعال المسرح وأطلق الجامد من سكون العربات لينفلت مدوّيا ككل فعل غير مسبوق.. أراد جواد أن يروّض حنينه يلونه ينحته.. يصقله يهادنه وينقضّ عليه.. كان يتمرّن كما لو أن الخشبة أم المعرفة لذا يتوسّدها كل يوم طالبا النجدة في طهرانيتها.. إنّه كاهن خاطئ لا يكفّ عن التضرُّع حتى يأتي خلاص العرض…
جواد الأسدي لم يكن أبداً تجربة مسرحية بل عبادة صوفية ملأى بالشطحات.. ولو قُدِّرَ لمسرحي أن يرجم لارتكابه الكمال، فهذا الأسدي هو الأجدر دائما.. بين “اغتصاب.. ورأس المملوك جابر.. وصولا إلى نساء في الحرب استقرارا في حنين حار.. كتب جواد الأسدي سطر المثابرة في صياغة الأداء..إنَّه ينهر أدواته حتى تبكي وتبكي حتى تشهق وتشهق حتى تعلو وتعلو حتى تطير وتطير لتخلق فعل الممثل الخلاق.. وهو مروّض الفراغ.. وربما من القلائل الذين يعبثون بالريح في هواء المسرح.. فإذا ما استدار الممثل استدارت الروح وازدحم الفضاء وتساكبت المعاني، هو الرائي الذي يمتحن الفكرة ليطوّعها مثل ساحر.. يكتب ويخرج ويمثّل.. حتى يرتفع الستار بين الممثل والعرض فلا تكاد تعرف الممثّل لأنّه يضع في روحه لتصهل كالشياطين.. لهذا فهو دائم البحث عن الممثّل الطهراني لأنَّه وحده من يستطيع وضع بصمات الشيطان بروحه.
جواد الأسدي رحلة خطوات ملأى بالشغف في ليالي دمشق وأيام بألوان السكنات في بيروت.. جواد الأسدي لم يعد اسما.. إنّه فن مضارع الأحلام.. الراكب على حصان ابتكار لا يهدأ.. لذا جاء أخيرا بـ”حنين حار” وكيف لا يكون هذا الحنين حاراً وهو يلامس بغداد بروح هذا الـ”مناضل داود” رفيق روحه الذي سطع كأنموذج ليعيد للأداء الذي يموسقه الأسدي روحه الجامحة.
جواد يا صديقي.. المسافة إليك ضارية وخطى يدي عاجزة فالتمس لأخيك العذر.