شارع أبي نوّاس.. الليلة الثانية بعد الألف

855

يوسف المحمداوي /

“السلام هو الطريق دائماً”.. تحت هذا الشعار احتفل شباب بغداد بمهرجانهم التاسع على التوالي في يوم السلام العالمي، الزمان هو الرابع والعشرون من الشهر الماضي، أما المكان فكان حدائق شارع أبي نوّاس حيث تعانقت الألوان مع الموسيقى، والأغاني مع المسرح، والحب مع السلام، إن مارأيته هناك لم يثلج صدري فقط، بل جال بي في أزقة الماضي وأنا أقول: كم تمنيت لهذا الشارع ألا ينتهي وأنا أسير بجانب حبيبتي في ثمانينات القرن الماضي، نعم.. تمنيت وبعنف، كعنف الجبهات في تلك الحرب الملعونة التي عدت منها سالماً بالصدفة المتأتية من دعاء الأمهات والحبيبات.
نعم، إنه هو شارع أبي نوّاس بدمه ولحمه، بمجونه وورعه، بتواضعه وجبروته، بصراخه وصمته، بفرحه وحزنه، بحكمته وطيشه، شارع لا تشبهه الشوارع أبداً، ذرعت أغلبها ولم أرَ او أشعر بأن بعض أبي نوّاس كان فيها.
لوحة عراقية خالصة لم تلونها أصباغ الطائفية او القومية، كتب في هوية أحواله المدنية: عراقي.
جلسنا على أريكة مجانية وسط تلك الدهشة من الجمال والواحة المغردة بالسحر وكأننا عصفوران يتهامسان بتساؤل مشروط فرضته أحداث اليوم مفاده أن أمير الشوارع ليست فيه آثار لجوامع ولا أجراس كنائس ولا أطلال معابد، لا قبور أنبياء او مراقد أولياء أو مقامات صالحين، الإعجاز هو كيف خلا هذا الشارع من كل ما هو ديني؟ ولم يتعنصر أو يلُذ بخيمة حزب ما، الماركسي هناك، الليبرالي والبعثي ومن اعتنق الإسلام السياسي، ومن تحاور مع الإلحاد خلسة كلهم هناك، كيف اجتمعوا على عشق شارع ولم يجتمعوا على مبادئ؟ كيف أجهل ما حدث ويحدث؟ هل خطط لهذا؟ عملاً بمقولة صاحبه الذي تسمى باسمه حين قال في زمن كانت البداوة والتعصب الديني حاضرة فيه:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
ما لي وللناس كم يلحونني سفهاً
ديني لنفسي ودين الناس للناسِ
نعم، يا ابن هاني ديني لنفسي، ودين الناس للناس، لم يهجُ أحداً ولم يحط من قدر دين، وإنما قال لكم دينكم ولي ديني، وها هو في شارعه كما أراد، لا طائفية ولا مذهبية ولا تفضيل لقومية على أخرى، لم يسأل أحد هناك الشاعر جان دمو عن مرجعية ولادته ولم يفتش أحد في جيب الحصيري عن هويته، ولا فوجئ البياتي يوماً بمن يسأله عن قوميته، هاجسهم الشعر وشاغلهم الوطن وخيمتهم أبو نوّاس.. شارع بطول العمر، بحلاوة مرارته إن وجدت، وبمرارة حلاوته إن اختمرت بعقل مازح أسكره الطيش.
شهادة ميلاد الشارع تشير الى العام 1934، حين شق النهر على أنقاض سدة ترابية أنشئت لتفادي فيضان دجلة، إذ بدأ العمل بالشارع منذ العام 1932، ممتداً من نهاية شارع الرشيد مروراً من تحت جسر الملكة عالية “الجمهورية حالياً” وانتهاءً بالجسر المعلّق محاذياً لنهر دجلة من ضفته الشرقية، ولم يكن الشارع بهذا الاتساع في بدايته حيث كان عرض الشارع أربعة أمتار فقط.
تذكرتهم كلهم هناك: صديقي القديم الذي علّمني كيف أشنق عافيتي بخيوط دخان سيكارتي، أبي الذي رحل دون أن يقنعني بغرام المسجد رغم إغراءات القداسة وتراتيل النبل، أخي الذي رسمني بلوحته أوتار عود علّقت بكف مجنون، حبيبتي وهي جالسة على تلك الأريكة تكتب رسائل عشقها لي بحبر الورد.
هنا على هذه الضفاف كان حسين مردان يكتب مظلومية قصائده العارية لمحكمة العفّة، وعبد الأمير الحصيري بجانبه يوّثق للتاريخ الذي يراه سر هزيمة الطرق من خطاه، والنساء من حيائه، هناك كان البيان الشعري موقّعاً من الشعراء العراقيين، وهم يبحثون في الشارع عن خيمة يلوذ بها إبداعهم.. متى؟ عام 1969 لتصدر بعد ذلك مجلة الشعر، أين؟ هناك في مقهى ياسين.
يمتد شارع أبي نوّاس من الجدار الجانبي لثانوية الراهبات “العقيدة حالياً” حتى حي الجادرية قبالة مجمع المنطقة الخضراء.
تعود تسمية الشارع إلى الشاعر العربي الحسن بن هاني المشهور بـ (أبي نوّاس) والمعروف بشاعر المدينة والمدنية، والذي غلب على شعره الوصف الجميل والحكمة والصورة الشعرية التي عبرت عن روح شاعر مدينة قام بثورة شعرية ضد الألفاظ البدوية، متبنياً الحياة الحضرية بجميع تفاصيلها .
ولد ابن هاني عام 763 وتوفي عام 814 للميلاد ونشأ في مدينة البصرة التي غادرها ليستقر في بغداد.
يتوسط الشارع تمثال كبير لأبي نوّاس أزيح الستار عنه عام 1972، نحته الفنان العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك. أما المعالم الأخرى التي تميز الشارع، وهي لصيقة به وعشيقة له، فأهمها نصب شهريار وشهرزاد وما يمثلانه من حكايات التاريخ المتخم بالترف والعبَر، وأخبار الملوك والسلاطين ونوادر الإنسان وأساطير الحيوان، وحكايات الدين والدنيا والحلال والحرام.
والنصب بوجوده على ضفاف دجلة الخالد يحاكي ويمجّد أسطورة ألف ليلة وليلة، ومبدع النصب هو الفنان الراحل محمد غني حكمت وذلك عام 1972، وأقيمت فعاليات شباب السلام بقربه، وظل وسيظل شارع أبي نوّاس لسنوات مضت وأخرى مقبلة شارع الفرح والحب والجمال.
في السابق ما إن تدخل الشارع حتى تملأ أنفك وجوعك رائحة السمك المشوي، ولا أظن أن أي سائح أجنبي أو عربي سواء كان مسؤولاً كبيراً أو مواطناً بسيطاً إلا وقصد أبا نوّاس لينعم بأكلة العمر، بل ويلتقطون الصور مع السمك قبل وبعد شيّه ليرووا في بلدانهم حكايات عن أكلة عراقية خالصة لا ينفرد بها أي مكان في العالم سوى لصيق دجلة، وعلى الرغم من تعدد أماكن بيع وشواء السمك اليوم، لكنها لم ولن تصل الى سمك أبي نوّاس لذة المشوي على أنغام أغنية ” ياصياد السمج صيدلي بنّية”.
ما أسعدني وأنا أنظر إلى تمثال أبي نواس داخلاً إلى ساحته كزائر وهو يرفع كأسه وكأنه يمنحك موافقة الدخول في حياة شارع أقل ما يوصف به أنه شارع الاستقلال من كل شيء إلا من عذوبة الحياة، فهو لا يتنازل عنها ليكون معها وإليها دائماً وأبداً، فهو الشارع القياس، نعم القياس، لأن من يريد أن يعرف حالة المجتمع العراقي وأوضاعه، عليه أن يذهب إلى أبي نوّاس.. فهناك سيجد ضالته وعلى مصاطب متنزهاته وأرصفته يأتيه الخبر اليقين، ويتمنى للشارع ألاينتهي.