شيخ الغفر أصدر جريدة وكان يوقف المحررين في تعداد عسكري!

786

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

هذه السطور الطريفة من تاريخ الصحافة قد لا تكون طريفة حقاً وحسب.. يكفي أن نستذكر أن هذا النمط من الصحفيين ساهم، وبطريقة وأخرى، بتكوين رأي عام في يوم من الأيام.

والموضوع بكل أسف قد لا يكون كله من الماضي ما دامت المقالات تكتب حسب الطلب، او كما يصفها العنوان الأصلي لهذا المقال بـ”مقالات عمولة”..

وهنا نص المقال:

شيخ خفراء وصاحب جريدة!

كان يعمل كشيخ خفراء في إحدى القرى، أنهكه السهر المتواصل والمجهود المستمر في المحافظة على الأمن.. ففكر بالاستقالة من هذا المنصب ليفتح محل تجارة متواضعاً يقوم فيه بالبيع والشراء، مستعيناً في ذلك بما وفره من مال طوال مدة خدمته الحكومية ولكن صديقه فقيه القرية نصحه بأن يستخرج رخصة جريدة، وأغراه بالأرباح التي ستعود عليه من إصدارها.

وقد كان، فإذا بشيخ الخفراء صاحب جريدة..! وارتفع شأن جريدته وعلا صيتها بفضل النظام العسكري الذي اتبعه صاحبها في إدارتها، فقد كان يدعو المحررين والعمال صباح كل يوم ليصطفوا في طابور منظم، ويلقي عليهم الأوامر المشددة، وإذا ما لاحظ على أحدهم خمولاً أمره بالخروج من الطابور خطوة الى الأمام والى اليسار او اليمين “دُر”، ثم الى الخارج “مارش”..!

مقالات حسب الطلب!

وكان شيخ العباقرة الشواذ في ذلك الجيل أديباً معمّماً من خريجي الأزهر الشريف او من أنصاف الخريجين على الأصح، فقد كان يكتب كل يوم ما يخطر بباله من المقالات ويحفظها في جيوبه مرتبة بحسب قيمتها وأهميتها.

وكان المندوبون الصحفيون يفِدون إليه ليجد كل منهم بغيته عنده.

وللمقالات “العمولة”، أي التي تكتب حسب الطلب، تسعيرة خاصة! وكانت مقالات المدح أرخص من مقالات الهجاء، لأن الأخيرة كانت أحياناً تعرض حضرة الكاتب للسجن او الاضطهاد.

ولا ينسى المعاصرون أنه كتب 139 مقالاً كبيراً تحت عنوان: “السرطان السياسي” بأسلوب ضخم معقد، فوصفه لطفي السيد باشا وقتها بأنه أعظم عبقري في الكلام الفارغ.. لأنه استطاع ان يكتب 139 مقالاً في موضوع واحد لم يفهم منها أحد شيئاً!
من جزّار إلى رئيس تحرير!

وكان أحدهم صبي جزار بالإسكندرية ثم انضم الى لجنة لأحد الأحزاب، وكان يراسل جريدة الحزب بين حين وآخر بكلمات مدح وتمجيد للحزب وأبطاله، ثم انتقل الى القاهرة فترك الجزارة واشتغل مندوباً بسيطاً لإحدى الجرائد، ولكنه ما لبث أن استطاع التأثير على صاحب الجريدة فأصبح محرراً له قيمته، وقد عهدت إليه كتابة باب “في المجتمع الراقي” الذي كان يكتبه بأحد المقاهي البلدية.. وكان هذا المقهى مكتبه الخاص ومنزله الذي ينام فيه ليلاً لضيق ذات يده!

ودار الزمان.. فاختاره صاحب الجريدة لرئاسة التحرير..! فاصطدمت آراء الرئيس الجديد بسياسة الحزب الذي تمثله الجريدة، فرأى صاحبها أن الاحتفاظ به خير من الاحتفاظ بالحزب كله، فخرج على الحزب ودخل في جيب صاحبنا “الجزار” الذي كان أحدوثة المجالس وأعجوبة الصحفيين!.

التحرير في المقاهي

ولا تزال تجد بين الصحفيين المخضرمين من يؤكد لك أنه لا يستطيع الكتابة في جو هادئ، بل لا يأتيه الخاطر إلا في المقهى أو في أي مجتمع صاخب، وكانت مكاتب الصحفيين المفضلة هي المقاهي الكبرى التي يتردد عليها العظماء والكبراء، فمنهم يسمعون وعنهم يكتبون.

وكانت لكل صحفي منضدته المفضلة في ركنه الخاص.. يترك عليها أوراقه وحاجاته حتى يقوم بإحدى جولاته ويعود. وإذا أراد أحد ما أن يترك له في غيابه مذكرة او خبراً تركه على هذه المنضدة وهو مطمئن إلى أن أحداً لن يجرؤ على الاقتراب منها في غياب صاحبها، وكان كل مقهى مجالاً لفئة خاصة من الصحفيين لا يؤمه سواهم، والويل لكل ثعلب يتسرب دخيلاً الى عرين الأسود!.