طفولةٌ مُعذَّبة

428

رجاء خضير /

توهمت أن الأقدار وأنا قد تصالحنا مع الأيام, لكنها خبأت لي ما لم أتوقعهُ..
إذاً، تعالَ أيها القلب الضعيف نقلب أوراق زمنٍ لم نعشهُ, ولم نفكر فيه سلفاً, فما بالك تخافه, بل خَف من أيام ليست لها -في أجندتنا- تواريخ أو أرقام, لنعش أيامنا ونترك وراءنا كل ما يمزقُ أوراقنا، أوراق حياتنا التي بدأت بالذبول لتحيا أوراق غيرها، هكذا هو الزمن.
قال الشاب (أ) الجميل العشريني العمر بأسىً واضح على ملامح وجهه: فتحتُ عيني على الدنيا والمعارك بين والديَّ لا تهدأ, أسمع الشتائم المتبادلة بينهما، ولكن كان والدي كان هو الأقوى والمنتصر دائماً، فيما تدخل أمي غرفتها لتبكي وتندب حظها العاثر بسبب زواجها من أبي. كنت أدخل عليها وأمسح دموعها، لكني لا أستطيع الحديث معها بشكل واضح آنذاك, ثم أذهب الى حيث يجلس والدي وأسحبه من يده كي يدخل إلى أمي ليرضيها. هو يفهم إشاراتي فيبتسم ويقودني لندخل عليها ويتصالحا. كبرتُ والحال نفسه، وبدأت أفهم سرّ الخلاف بينهما, فقد فهمتُ أن والدي ليس له عمل مستقر, يعمل كل فترة في مكان ثم يغيره, هذا الأمر كان يزعجُ أمي فتقول له: “لماذا لا تثبت في عملٍ ما وتستقر من أجلنا؟” فهي تخاف البطالة إذا ما استمر على هذا الحال. كان أبي يستهزئ بحديثها ويقولُ “الرزقُ على رب العباد،” فترد عليه أمي بالقول “أمرنا الله بالعمل والكفاح،” لا تنتهي مناقشتاهما إلا بعد حين, وحينما يتوتر والدي ويكسر كل ما تقع عليه يدهُ ويخرج.
في خضم هذا التوتر الذي يخيم على البيت كنتُ أفكر: لماذا أنا وحيد عائلتي؟ ليس لي أخ أو أخت,
صمت (أ) قليلاً ثم تابع حديثه:
في يوم كنا نجلس أنا و أمي لتذاكر لي دروسي، تشجعت وسألتها: أمي.. لماذا ليس لي أخ أو أخت كبقية الأطفال؟
شردت قليلاً ثم قالت بعد صمت: أنت تكفي يا ولدي!
لم أفهم وقتها ماذا يخفي جوابها.
أردف (أ) قائلاً: في أحد الأيام دخل والدي منشرحاً والفرحة تنطق في عينيه ورمى بأكياس الفاكهة التي يحملها في حضن أمي التي استفسرت عن سر فرحهِ ومن أين له هذا مؤشرة إلى الأكياس؟ فأجابها باختصار: “لقد وجدتُ عملاً, وسوف لن أتركه أبداً, إنه يدرُ عليّ نقوداً كثيرة.”
وقتها، سحبته أمي من يده ودخلا الغرفة, لتستفسر منه عن العمل وإذا كان حلالاً أم حراماً و…. كنت أسمع حديثهما من وراء الباب، أوضح أبي لأمي أنه يعمل عاملاً لتحميل ونقل الأثاث والبضائع من اماكن عدة الى محال لبيع الأثاث، وسكت ولم يبين لها أكثر من ذلك. بعد هذا الحديث انسحبت من خلف الباب بسرعة حينما سمعت وقع خطى والدي يريد الخروج من الغرفة, عدتُ أقرأ دروسي وأحضر واجباتي المدرسية, خرج والدي من البيت بعد أن ودعني وطلب مني أن أكون رجل البيت اثناء غيابهِ إلى عملهِ الذي يستمر إلى الصباح أو لأيام عدة.
مرت السنون بسرعة وأصبحت طالباً في الإعدادية, وبين آونة وأخرى كانت المعارك تندلع بين والديَّ, لأن أمي تلحُ على والدي لمعرفة عمله ومكانه وهو لم يجبها يوماً!!
سكت (أ) عن الكلام بعد أن غسلت دموعه وجههُ الجميل ثم قال بعد دقائق:
في المدرسة بدأتُ أشعر، بل وأسمع أقاويل وكلاماً بذيئاً بحق والدي, في بداية الأمر لم ألتفت الى كلام الطلاب وأفسر موقفهم بالغيرة مني لأنني من الطلاب المتميزين بالدراسة. تكررت الحالة هذه, بل وبدأ أكثر الطلاب يبتعدون عني ويسمعونني كلاماً سيئاً بحق والدي.
عدتُ يوماً من المدرسة, فانفجرت بثورة كلامية وأخرجت ما في جعبتي، ما يضايقني، وقصصت لأمي معاناتي من قبل زملائي بسبب أعمال والدي المشبوهة, انهارت وجلست على معقد كان بقربها وقالت بصوت مسموع “هذا ما كنت أخشاه منه.”
أخبرتها بقراري بترك المدرسة كي لا أسمع المزيد من الكلام السيئ بحق أبي!
ومن يومها لاحظت أن أمي باتت تخرج يومياً ثم تعود منهكة والحزن واضح عليها, وحينما أسألها أين كانت، لا تجيب، بل تغط في نوم عميق, استمر هذا الحال أشهراً عدة.
في يوم، وعندما عاد والدي من العمل (كما يدعي) اندلعت ثورة عارمة بين والديَّ وسمعتُ أمي تقول له كل شيء عرفتهُ (هي) عنه, أراد أن يسكتها دون جدوى, اضطررت للدخول عليهما لإيقاف ثورتهما، لكن جهودي باءت بالفشل, وتحول الصراخ والشتائم بينهما إلى الضرب، وكالعادة كان أبي هو المنتصر على أمي التي بدأت تستنجدُ بي, تدخلت مرة أخرى بالمعركة ودفعتُ والدي بقوة وأخرجته من الدار وهو يتوعدني وأمي بقتلنا يوماً ما, أغلقتُ الباب خلفهُ وقبلّتُ أمي وغسلتُ وجهها المغطى بالدم, ثم جمعت ما كسرهُ والدي من أدوات وأثاث وكل ما وقعت يداه عليه، نظفتُ البيت وخرجتُ لأجلب لأمي الطعام من السوق, وهناك سمعتُ بعض الجيران يتحدثون عن معاركنا التي لا تنتهي.
حزنتُ كثيراً وعدتُ إلى البيت, لأفاجأ بأمي معلقة بالمروحة السقفية في غرفتها! صرختُ: أمي…أمي، لم تجب, أسرعتُ إلى الخارج واستنجدتُ بالجيران والمارّة الذين أبلغوا الشرطة التي أخبرتني بأنها فارقت الحياة!
اتصل الجيران بوالدي الذي أتى وتحدث مع الشرطة والجيران ببرود قاتل وقال لهم “مشاكلنا عائلية وهذه تحدث مع الجميع.”
قال له محقق الشرطة: “وهل جميع الزوجات ينتحرن لمجرد هذه الخلافات! أم أنها اكتشفت عنك أمراً لا تريد أن نعرفه؟” وبدأ الشجار بين والدي والشرطة، ونسي الجميع جثة أمي الممددة على الأرض بعد أن أنزلها رجال الشرطة من المروحة.
لا أعرف كيف فقدتُ أعصابي وأمسكت بعصا غليظة كانت بجانبي وانهلتُ على والدي ضرباً على رأسهِ وأنا أشاهد شريطاً سينمائياً لتعذيبه لأمي وضربه لها منذ كنت طفلاً وحتى الآن…
وقع والدي أرضاً، رفعتهُ الشرطة من على الأرض وأخذوه إلى المستشفى, أما بقية أفراد الشرطة فقد اقتادوني إلى مركز الشرطة بتهمة الشروع بقتل والدي!
بقيت جثة والدتي على الأرض لحين وصول أهلها وأقاربنا الذين قاموا بدفنها، دفنت وهي تعرف الكثير عن والدي ولم تخبرني بشيء عنه سوى ما سمعته من زملائي في المدرسة, لكن الصورة توضحت لي في مركز الشرطة حينما قال أحدهم لي “شكراً يا ولدي، لقد ساعدتنا بالقبض على والدك فهو من أشهر أفراد العصابة التي تقوم بسرقة البيوت والمحال.”
وقتها فقط تبينت لي الأمور التي كنتُ أجهلها بشأن والدي وكانت تعرفها أمي (رحمها الله) ولكنها لم تخبرني بشيء عن هذا الأمر!!
إذاً، كان زملائي في المدرسة يعرفون ما هو عمل والدي! والجيران والأقارب الذين ابتعدوا عنا تدريجياً, وعجبت كيف لم تتوصل الشرطة إلى والدي! قد يكون عمله باسم آخر, أو أنه لا يتواجد معنا دائماً و….و….
أصدرت المحكمة حكمها علي بسبب ضربي لوالدي والشروع بقتلهِ، وحُكم على والدي بالسجن سنوات طويلة، ولكن بعد خروجهِ من المستشفى.
وهكذا نحن (أنا و أبي) أخذنا عقابنا, لكن أمي ماذا سيكون عقابها عند الله بانتحارها!! الله أعلم بذلك!!