غجر الباجاو يصنعون فردوسهم على الماء

1٬120

ترجمة: آلاء فائق /

بعيداً عن اليابسة، يمضي شعب الموكين أو (رحّالة البحار) حياتهم على ظهور المراكب. هم شعب بدوي، ما يفرقهم عن بدو الصحراء هو تنقلاتهم البحرية وليست الصحراوية. غير أن مبدأ العيش هو نفسه، يتنقلون من مكان إلى آخر بحثاً عن الصيد، مراكبهم في البحر هي مسكنهم ووسيلة رزقهم، لا يعرفون النقود ويعيشون على مقايضة الأسماك والسلع الزراعية.
العيش في جنائن معزولة
يعيش قسم من شعب رحالة الموكين أو ما يعرفون بغجر البحر المنتمي لقبيلة الباجاو في جزيرة بورنيو (ثالث أكبر جزيرة في العالم، وأكبر الجزر الآسيوية، الواقعة في أرخبيل الملايو المقسم بين إندونيسيا وماليزيا وبروناي). كما يعيش جزء آخر منهم في أرخبيل جزر الـ Mergui” ” الممتد على طول 400 كم في بحر الأندامان، غرب الشاطئ التايلندي. ويضم الأرخبيل 800 جزيرة تقريباً تطالب بها كل من دولتي بورما وتايلاند. يعيش في هذه الجزر أكثر من ألفين إلى ثلاثة آلاف شخص، وهم مجموعة سكانية أسست حياتها السلمية اعتماداً على المياه على مدى سنوات طويلة، لا يحملون جنسية أية دولة على الإطلاق لعدم اعتراف الدول المجاورة بهم ولأنهم غير مسموح لهم بالوصول إليها، إنه خيارهم بالعيش في جنتهم المعزولة الخاصة بهم، يعيشون حياة شبه بدوية ويعتمدون اعتماداً كاملاً على الصيد من البحر، رغم أن ذلك يعرضهم لتهديدات متزايدة.
طبيعة حياة قاسية، لكنها مجزية
على الرغم من بُعدها، فإن جزر سورين الخمس الصغيرة في تايلاند هي موطن لمجموعة واسعة من السكان، كما تضم مجموعة من الحيوانات، كقرود المكاك، وخفافيش الثمار العملاقة أو ما تعرف بالثعالب الطائرة وسحالي الورل المائية الآسيوية التي تزحف على التلال المغطاة بالأدغال الكثيفة. أما تحت سطح الماء فتختفي شعاب مرجانية واسعة وحياة بحرية كاملة، بما في ذلك السلاحف البحرية وأسماك المهرج وشقائق النعمان البحرية. لكن بصرف النظر عن تنوع الحياة الحيوانية النابضة بالحيوية، فإن الجزر، التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالقوارب والتي تبعد 60 كم قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتايلاند، لا تكاد تتمتع بأية تنمية ولا يصل اليها سوى عدد قليل من السياح، ما يجعل منها جزراً قاسية لكنها مجزية وهي بديل عن الشواطئ التايلاندية المعروفة. في الواقع، هناك قرية واحدة فقط ، تدعى خليج “Ao Bon” استوطنتها قبيلة من الشعوب الأصلية، وهم غجر البحر أو شعب الموكين.
متنزه تحت الماء
في عام 1981، أُعلن أن جزر سورين هي الحديقة الوطنية الـتاسعة والعشرين في تايلاند، وأطلق عليها اسم متنزه “مو كو سورين”، وهي محمية تحمي الجزر من التطور الضار المحتمل. يذكر أن 80% من الحديقة الوطنية التي تبلغ مساحتها 140 كيلومتراً مربعاً تغطي البحر وتقع إحدى طبقاتها الرئيسة تحت سطح الماء.
على الرغم من أن رحلات القوارب تنقل السباحين إلى أبعد نقطة من الشاطئ، فمن الممكن أيضاً الوصول إلى شاطئ Mai Ngam والغطس مباشرة على طول الشعاب المرجانية الضحلة، وغالباً ما تصل الرؤية تحت الماء إلى 35 متراً. يتم بهذا المتنزه تنظيم العديد من الرحلات اليومية لممارسة رياضة الغطس وتتولى شركات سياحة خاصة عرض يخوت صغيرة للإبحار بها أياماً عدة.
قرية الغجر البحرية
كحياة تقليدية للبدو، اعتاد بدو جزر سورين الذين يتراوح عددهم بين 200- 300 فرد، جلّهم من غجر بحر الموكين، على التنقل بين جزر أرخبيل الـ Mergui” ” في قوارب الكابنج الخشبية المصنوعة يدوياً. أصبحت حياتهم في العقود القليلة الماضية أكثر صعوبة، لأن العديد منهم غير حاصل على الجنسية الوطنية، ناهيك عن كثير من التعقيدات التي تواجههم، ما أدى إلى تقييد تحركاتهم. ومنذ وقوع كارثة تسونامي عام 2004، طلبت الحكومة التايلاندية من أقلية غجر الموكين التي تقطن جزر سورين (ثاني أكبر جزر الأرخبيل) حصر إقامتهم في قرية واحدة هي قرية Ao Bon Bay.
السير ببطء نحو الشاطئ
عندما اعتاد شعب الموكين على حياتهم البدوية، ألفوا العيش على قوارب الكابنج، وأثناء موسم الأمطار بنوا أكواخاً مؤقتة من المواد الطبيعية كأوراق شجر النخيل المداري. اليوم، هم يعيشون في هذه الأكواخ البسيطة على مدار السنة.
عاش سوزوكي يوكي، وهو بروفسور ياباني مختص بالثقافات البحرية لشعوب المحيط الهادئ والشعوب البدوية، في القرية عامي 2007 و 2008 أثناء كتابته أطروحته عن شعب الموكين. مضمون أطروحته كان عن قياس المسافة من المنازل إلى الشاطئ، كان ذلك يلزمه العودة لجزيرة كو سورين بين مدة وأخرى. يقول يوكي: عندما أعيدَ بناء القرية بعد كارثة تسونامي، طلب مسؤولو الحديقة الوطنية من الموكين بناء منازلهم بعيداً عن الشاطئ قدر الإمكان، لكنهم ما لبثوا أن عادوا أدراجهم شيئاً فشيئاً قرب البحر.
معرفة الموكين الهائلة بالبحر وأحواله مكنتهم من النجاة من كارثة التسونامي الذي حصد حياة آلاف البشر، رغم أنهم كانوا يعيشون في مركز المنطقة التي تعرضت للضربة الرئيسة، لكنهم لم يفقدوا أحداً لأنهم كانوا يعلمون بقدوم التسونامي، إنهم يفهمون البحر أفضل من علماء البحار.
قدراتهم تفوق قدرات الإنسان العادي
أظهرت دراسات علم الاجتماع أنهم شعب يعيش في البحر ولا يعاني من مشاكل اجتماعية أو نفسية، أو حتى صحية ومرضية، لأنهم منعزلون عن العالم الملوث. طبيعة عيشهم الصحية تجعلهم يعيشون أفضل مئة مرة من البشر الآخرين. سعادتهم تنبع من حياتهم البسيطة وتوازنهم مع البحر.
جميعهم، ومنهم الأطفال، يتمكنون من النظر تحت المياه أفضل مرتين من أي إنسان آخر يعيش على اليابسة، حتى لو كان غواصاً متمرساً، فهم يتميزون بقدرات بصرية حادة تحت الماء، حيث تأقلمت عيونهم على البيئة المائية، ويستطيعون المشي في قاع البحر والتحكم بأجسادهم والطفو. تجدهم يتجهون للخلجان والشواطئ لكسب لقمة عيشهم، كما أن لديهم القدرة على حبس أنفاسهم مدة طويلة مقارنة بأشهر الغواصين، طبيعة أجسامهم تعودت بالفطرة على التكيف مع البيئة، نبضات قلوبهم تنخفض لدى النزول إلى المياه لتوفير الطاقة ويتحملون ضغط المياه العميقة أضعاف الإنسان الطبيعي، دون الاستعانة بأدوات الغوص المعروفة.
يشير الأطباء إلى أن مكوثهم تحت الماء للصيد أكثر من خمس دقائق في كل مرة، جعل طحال الواحد منهم أكبر مرة ونصف من طحال الفرد العادي.
معيشة الكفاف
قدراتهم المطلقة على الغوص، حيث بإمكانهم الغوص لعمق يصل إلى 15متراً أو أكثر، وقدرتهم على مسك أنفاسهم لعدة دقائق وبنفس الوقت استخدامهم الحراب لصيد السمك وخيار البحر، جعلتهم من أمهر الصيادين في العالم، عندما يكون المد منخفضاً والشاطئ مستقراً ومكشوفاً تصعد المحارات فوق سطح الماء فيسارعون إلى جمعها. أما نساء الموكين فيحفرن الرمال بغرس عصي خشبية في الشاطئ بحثاً عن الديدان الرملية، كما يجمعن المحار على طول الشاطئ الصخري، مستخدمات شفرة عديمة اليد لفصل الأصداف وجمع المحار في دلاء بلاستيكية.
منازل الموكين
تقليدياً، يبني أفراد قبيلة الباجاو منازلهم على متن قوارب صغيرة، ويمضون أيامهم كلياً خارج البيوت على المياه معتمدين على معدات صيدهم الخاصة بهم للمحافظة على ديمومة الحياة.
في الماضي، كان معظم أفراد القبيلة يعيشون في عزلة اجتماعية عن العالم الخارجي، وما زال الكثيرون يقيمون وسط “اللا مكان” وصنعوا قراهم العائمة الخاصة بهم من الشعاب المرجانية.
اليوم، يأتي بعض هؤلاء الناس الواسعي الحيلة إلى الشواطئ للعيش في الجزر الصغيرة وبيع أسماكهم. ما يزال غجر الباجاو يعتمدون على المياه لكسب لقمة عيشهم وتجدهم باستمرار يوسعون معرفتهم المتزايدة عن المحيطات.
تصميم منازلهم يشبه تقريباً ورقة الباندان وقاعدة ساق نبات الخيزران، وكل منازلهم على هذا النمط، مركز المنزل يجب أن يبقى نظيفاً، ربما لأن هذا هو الحال في القوارب. تجدهم يطهون طعامهم في المنتصف، ثم يدفعونه للجوانب حتى يتمكنوا من النوم. يعيش كثير منهم في أكواخ مثبتة على ركائز متينة مرفوعة على الماء. هنا تضع النساء مواليدهن الذين يعيشون ويموتون على الأرض نفسها التي عاش فيها أسلافهم سنوات طويلة. رغم توفر العديد من الرحلات اليومية لقراهم، غير أن الجولات لا تضمن الوصول لمنازلهم.
الجيل القادم
على الرغم من حقيقة أن أطفال الموكين باتوا يتربون اليوم على الأرض، عكس آبائهم وأجدادهم، الذين نشأوا وعاشوا في قوارب الكابنج، لكنهم ما زالوا ملتزمين بكثير من تقاليدهم. يتعلم الأطفال السباحة قبل تعلمهم المشي، جل أطفالهم يتقنون السباحة والغطس والصيد تماماً لدى بلوغهم سن الثامنة، تجدهم يستمتعون بقضاء بعض الأوقات المرحة في القوارب وينافسون الكبار ذوي الخبرة بالغطس.
المصورون الرحّالة
يمضي المصورون الرحّالة دائماً بضعة أيام مع غجر البحر المحبوبين، الذين ما زالوا مجهولين كثيراً داخل المجتمعات الحديثة. كل من تطأ قدماه جزرهم ومنهم المصورون يحاولون استثمار كل دقيقة من وقتهم لتعلم الكثير من عاداتهم وطباعهم والتقاط صور لما تبدو عليه حياتهم البسيطة الفائقة القدرات.
وبحكم عملهم كمصورين رحّالة يجوبون أنحاء العالم كافة، يلتقون بثقافات مختلفة من جميع أنحاء العالم، لكن تجربتهم مع غجر الباجاو غيّرتهم للأبد، وألهمتهم ثقافياً مستوى آخر من السلام والسكون والصفاء.