غوثام.. مدينة الألم

622
مقداد عبد الرضا /
يقول ميشيل فوكو في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي): نحن أنذال هزل ومرتخون, شيوخ حسّادون وبذيئو اللسان, لا أرى سوى الحمقاوات والحمقى, إن النهاية في واقع الأمر قد اقتربت, كل شىء سيئ, لقد انعكست العناصر الآن, فليس في نهاية الأمر نهاية الأزمنة هي التي ستبين لنا أن الإنسان مجنون إلى الحد الذي يجعله لايكترث بهذه النهاية, بل تنامي الجنون واكتساحه الصامت هما اللذان يشيران إلى أن العالم قريب من كارثة النهاية, إن جنون الإنسان هو الذي يستدعي هذه النهاية ويجعلها ضرورية.
هل لنا أن نتساءل عن العصف الذي حل بآرثر فليك (جوكر, خواكين فيونكس) ورمى به من مصح إلى حضن أمه المريضة المتعبة، إلى مهرج للترويج، إلى ضاحك دون سبب، إلى مسدس يطلقه بوجه المدينة؟ هل يحق لنا أن نتساءل لم يحدث كل هذا؟ أم أن الأمر أصبح طبيعياً ضمن حياتنا المضطربة هذه؟ ربما نتعاطف بعض الشيء، أو بالأحرى نفرح للأحداث الدامية التي قام بها الجوكر نتيجة الاستلاب اليومي والوجودي الذي حل به، وهاهو يعصف بنا, سلطة القمع أشد فتكاً من سلطة الجريمة. لقد تعلمنا منذ الأزل أن لكل فعل رد فعل.
آرثر فليك، شاب مصاب بعصاب الضحك, هاهو يضحك في الباص مع طفلة بكل براءة، لكن أمها تنهره ولايحق له القيام بفعل كهذا, لكن ردة فعله كانت أكثر صخباً واحتجاجاً, ظل يضحك ويضحك. الهوية التي يحملها تقول أنه مصاب بعدوى الضحك, لم يأت الجوكر من خارج قوس الحياة بل جاء من رحم هذه الأرض, من القلق المتزايد، تلك السبل الخفية التي تخفي الكثير من الفزع والارتباكات, إنكم تسمعوننا أخباراً تشتبك حتى مع أحلامنا الجميلة لتتحول إلى كوابيس بفضل شحن المزاج اليومي بالدم إلى مداه القصي, غوثم.. المدينة التي تملأها القاذورات والنفايات صباحاً، وهاهو آرثر فليك يضع اللمسات الأخيرة فوق وجهه كي يبدو مهرجاً ويعمل مروجاً لإحدى البضائع أمام أحد المحال, يرقص ويغني بكل براءة ومتعة, لكن هذه المتعة هل تدوم, هناك من له الرغبة في تدمير المتع, شباب يعرفون أن آرثر لاقدرة له على المقاومة، يسرقون اللوح منه ويهربون، يتبعهم لاهثاً كي يسترجعها، لكنه يتلقى ضرباً مبرحاً، وبمتعة متناهية ومعه يتهشم اللوح ليتحول إلى قطعة من نفايات المدينة, هذا الفعل الذي يبدو واضحاً أن الأولاد قاموا به دون سبب يذكر، فقط من أجل تزجية الوقت ليس إلا. ألم يكن ميرسو الذي لايعرف متى ماتت أمه اليوم أو ربما أمس هو نفسه من أطلق الرصاصة على العربي في رواية (الغريب) لألبير كامو، والسبب كما ادعى كان بسبب حرارة الطقس, القتل هنا بالنسبة لميرسو –الغريب-هو أمر غير مهم مثل بقية الأشياء اليومية الأخرى التي لاقيمة لها, لاقيمة للموت وكذلك لاقيمة للحياة, وليس هناك فارق أن نموت في البيت أو الشارع أو في سوح القتال، او حتى فوق طاولة مركونة في أحد البارات آخر المساء، وربما معلقاً فوق عامود والناس تصرخ بمتعة متناهية فرحة لهذا الموت المجاني, يبدأ الجوكر بعد نهاية تايتل الفيلم بالضحك كي يعرفنا على محنته, ضحك حد الألم حد الاحتجاج المخبوء.
-هل أنا وحدي من يظن هذا؟ أم أن الوضع أضحى أكثر جنوناً في الخارج؟
-الوضع محتدم بالتأكيد, الناس غاضبون, يبحثون عن فرص للعمل, إنها أوقات عصيبة.
آرثر فليك (الجوكر) لديه دفتر ويكتب يومياً, ماذا يكتب؟ إنها بضع أفكار عن المزح والضحك والعروض المضحكة الارتجالية, لعله من باب شر البلية؟ أو أنه يأمل أن يكون موته أفضل من حياته, تلك علّة الوجود, على أن تكون في صف واحد مع الآخر, لكن هل الآخر يحمل نواياك أم يكتنفه الشر؟ نحن حتماً لانخشى الأشياء الغامضة بقدر مانخشى الأشياء الواضحة, لماذا يكون الحجز في المشفى أفضل من العالم الخارجي, هل الخارج أكثر عتمة؟ نعم هو مايصرح به.
-كنت في حال أفضل حينما كنت هناك, العلاح الهروب, الدواء الانكفاء أكثر, ليس للجوكر من يكاتبه, أمه المتعبة التي ستموت لاحقاً وستكون الوحدة دافعاً للرقص, الألم, الاحتجاج ثم الموت مرة أخرى, والجارة الحلوة التي يتمنى أن يقيم معها, إنها تشبهه في الألم, لم يتابعها ويتلصص عليها؟
– فكرت أنك تنوي سرقة المكان.
– لديّ مسدس وبالإمكان أن أفعلها في الغد.
تتوطد العلاقة أم لا؟ ربكة المدينة، الألم, المدينة، القسوة, أتعس مافي مرض العصاب أن الناس يتصرفون وكانك لاتعاني منه, ماذا يعني أن المدينة محاصرة بجرذان كبيرة يصعب السيطرة عليها؟ من يتمكن من إنقاذ المدينة؟ الجرذان يصعب قتلها وعمدة المدينة معمد من قبل جمهور التلفزيون.
راندال، صديق آرثر، كان قد سمع بحادث الأولاد الذين تعرضوا له بالضرب.
– كانو مجرد أطفال, كان علي أن أتركهم وشأنهم, هل آرثر هو المسيح بصيغة أخرى؟ إن كان كذلك إذاً لم وافق على أن يأخذ المسدس من راندال ويقيم احتفالات للقتل فيما بعد؟ الشارع يحتدم, الناس تخرج للمطالبة بحقوقها, الموت بين لحظة وأخرى, توني.. مقدم البرامج (روبرت دنيرو) يجد فيه الموهبة فيستقطبه،لا لموهبته وإنما للسخرية منه، لذا وعلى الهواء مباشرة ينتهي اللقاء بعدة رصاصات يطلقها آرثر في وجه سخرية الإعلام كله, تشتعل غوثم، المدينة المفترضة, الجميع يرتدي القناع, إنها المدينة التي يموت فيها الناس من ألم السعادة القصوى, السعادة باعتبارها ألماً, أليس الرقص هو نوع من أنواع التعبير عن الألم؟ أليس ذلك جميلاً، أياً كان نوع الموت, من الرقص أم بارتطام العربات.
 على مستوى التمثيل برع خواكين فينكس بشكل مذهل, على  هوليوود أن تنتبه إن لم تمنحه الأوسكار كأفضل أداء فهذا يعني أن تحت الطاولة خيانة, الموسيقى لها دور أخاذ في تتابع الأحداث بشكل رائع، تنساب أحياناً وتدفع بنا إلى التوتر في أحيان أخرى, إنها الموسيقية هليدار كونديتيور, لعلها تقمصت روح آرثر فليك حينما وضعت موسيقاها, هكذا هي الحياة, لوهلة تبدو مضحكة, البعض يرغب في الإثارة, يسحق أحلام الآخرين, لكني لن أسمح لها أن تطيح بي, هذا العالم فلك يدور, كنت دمية, معدماً, شاعراً, جندياً, ملكاً, مررت بالكثير, أعرف شيئاً واحداً, في كل مرة أجد نفسي فشلت, أتوازن وأعود إلى البداية , هكذا هي الحياة.
 كنت أود أن أتحدث كثيراً عن الفيلم لكن حكم المساحة أقوى