فيلمون وهبي انطلاقته بدأت من ملاهي تل أبيب

836

 سليم اللوزي/

هل تعلم من هو صاحب اللحن الجميل “برهوم حاكينا” انه ملحن شاب يملك ثروة من الألحان، ولا يملك شيئاً من المال!
الرحلة الأخيرة التي قمت بها الى العراق، قضيت عشر ليال، اطوف فيها كل يوم على ملهى من ملاهي بغداد التي تتدفق فيها الشمبانيا مع الكلمة الحلوة والنغم الشجي!

وفي كل ليلة، كانت الألحان اللبنانية صاحبة الكلمة الأولى في الجو، فأغنية “دخل عيونك حاكينا” واغنية “أبجد هوز اسمع مني لا تتجوز” ثم اغنية “برهوم حاكينا”، هذه الأغاني الثلاث، وعشرات الاغاني اللبنانية وغيرها كانت تتردد في كل مكان، تغنيها المطربة الحسناء كما يغنيها فاتح الشمبانيا، ويشارك الاثنين في الغناء، الجرسون المرح الذي يخدم الموائد على سلم الانغام!

وسألني الزميل الاستاذ عادل عوني صاحب جريدة “الحوادث البغدادية” ذات ليلة: “شو الحكاية”؟ الاغاني اللبنانية اكتسحت ليالي بغداد؟

وقلت: هل تعرف صاحب هذه الأغاني اللبنانية؟

قالت: “أعرف ان اسمه فيلمون وهبي، وقد لمحته في احدى زياراتي الى لبنان، ويخيل لي انه اصبح اليوم مليونيرا!”

وابتسمت ثم قلت: “من بقك لابواب السماء.. ان فيلمون وهبي يموت من الجوع!؟

صوتي وحش!

وقصة فيلمون وهبي، من احلى القصص قابلته أول مرة في مدينة يافا بفلسطين عام 1944 وكنت يومها اشغل منصب المساعد العام لمدير البرامج العربية في محطة الشرق الأدنى!

وكان فيلمون وهبي يخرج لأول مرة من قريته القائمة على كتف رابية تطل على بيروت.. وقد انتقل من كواليس دار الاذاعة اللبنانية الى دار الاذاعة العربية في مدينة يافا.

وانطلق الفنان القادم من القرية، في مسارح وملاهي “تل أبيب” يفتح اذنيه لكل نغمة موسيقية، ثم يعود مع آخر الليل من “تل ابيب” الى يافا مشياً على الأقدام، وهو يغني الميجانا أو العتابا أو ابو الزلف!

واذكر انه قال لي مرة: “أنا اعرف ان صوتي ليس جميلاً، ولكن الله وهبني حاسة موسيقية في اذني غريبة الشكل.. فانا اسمع كل يوم عشرات الألحان الغربية، ومع ذلك لا احس الا بهدير الألحان اللبنانية القديمة، فماذا تقول في ذلك؟

قلت: هذا دليل على اصالة هذه الالحان.

قال: وماذا اعمل اذا كان صوتي ليس جميلاً؟

قلت: افتح محلاً للبقالة.

وضحك فيلمون يومها وقال لي: بل سافتح محلاً لبيع الألحان!

بائع الألحان المتجول!

وعاد فيلمون وهبي الى لبنان، واشتغل بائعاً متجولاً للالحان اللبنانية، التي كان يضعها، وهو يأكل رغيفاً ويضع حبات من الزيتون في قريته القائمة على كتف الرابية التي تطل على بيروت!

وكان يشعر ان الالحان التي يصنعها هي الحان “بازارية” اي شوية أنغام مصرية مخلوطة بشوية انغام لبنانية مصرية مخلوطة بشوية أنغام لبنانية ومثلها أنغام عراقية!

الى ان حدث ذات يوم ان ذهب فيلمون وهبي الى مبنى دار البريد والبرق في بيروت، ليسأل اذ كان هناك باسمه حوالة أو رسالة أو خبر يهدئ به معدته ومعدة أمه الصابرة في القرية.. وهناك على أرض مبنى البريد وجد قصاصة من ورق الجرائد، طبع عليها قصيدة زجلية مطلعها: على نار قلبي ناطر المكتوب!

وكانت هذه الأغنية أول حجر في مجد فيلمون وهبي الذي اصبح اليوم، خلال الخمس سنوات الأخيرة، ناطحة سحاب.

وقامت منافسة فنية واسعة بين صناع الألحان اللبنانية، كالاساتذة: نقولا المني، ووديع الصيداوي ووديع الصافي.. وكان فيلمون بطل المعركة، فقد انتشرت الحانه كما تنتشر بقع الزيت فوق الأمواج.

كان يضع اللحن، ويعطيه لقاء دعوة متواضعة الى الغداء، وفي آخر الليل، يذهب الى الملاهي ليسمع ألحانه، وهو واقف على الباب، لأنه ليس في جيبه ثمناً لكأس من الويسكي!

الأمنية الكبرى!

وفي الاسبوع الماضي كنت في زيارة النجمة صباح التي جاءت من مصر الى لبنان، لتدفن ماضيها فوق جبل مصيف “عالية”!

وهناك، في حديقة القصر الذي تعيش فيه صباح، التقيت بفيلمون وهبي وكان يرتدي “جاكيت” أبيض جديد، ورباط عنق جديدا، وجزمة “موكاسان” من صنع “ايطاليا”!

وقلت لفيلمون: “شو الحكاية.. ان آثار النعمة قد بدأت تظهر عليك . وضحك ثم رفع يديه الى حيث تسكن السيدة صباح، وقال: الله يخليها عندما تحضر الى لبنان نصبح نحن في الجو!”..

قلت: ما رأيك في صباح؟

قال: بلاش هذا السؤال.. إنها سلة الخبز الأبيض الذي نعيش عليه.

قلت: أي المغنيات والمغنين تحب أو تضع لهم الألحان؟

قال: صباح ونجاح وزويك وعلي.

قلت: ومن هو زويك وعلي؟

قال: ولو؟ هل هناك احد لا يعرف محمد سلمان؟

قلت: وما أعز امنية لديك؟

قال: ان يصبح لنا في لبنان قانون لحماية حقوق الملحنين، حتى نصبح بني ادمين؟

وفي تلك الليلة، كنت اطوف على ملاهي المصايف في “عالية” و “بحمدون” وكانت الحان فيلمون وهبي تغني في كل مكان، فهي مباحة للمطربات والمبتدئات، ومع ذلك فهي الحان ناجحة ترددها اصوات الجمهور مع صوت المغني أو المغنية، وفي آخر الليل، التقيت بفيلمون وهبي، بجاكتته البيضاء، ورباط عنقه الجديد، وجزمة “الموكسان” الايطالية.. وكان يسير بهذه الثياب الرسمية وهو يلتهم “سندويش” فول على الماشي!

الكواكب 6/9/1955