كتب عنه هيكل وجبرا وأسس متحفاً..غرائب العراقي الدكتور داهش!

442

باسم عبد الحميد حمودي

منذ فترة طويلة وأنا أفكر بالكتابة عن (سليم موسى العشي) الشهير بلقبه (الدكتور داهش)، وذلك لعلاقته بكثيرين من أدباء وصحفيي وساسة عصره، ومنهم الدكتور محمد حسين هيكل (مؤلف كتاب حياة محمد وزعيم حزب الأحرار الدستوريين المصري وكاتب أول رواية مصرية حديثة هي “زينب”)، والرسامة ماري حداد التي انتحرت من أجله، والشاعر حليم دموس مروِّج أفكار الداهشية التي تؤمن بالروح وسيلة للخلاص الإنساني, وصولاً الى صديق داهش المقيم في فندق فاروق في بلدة المتن، الشاعر العراقي المغفور له أحمد الصافي النجفي، الذي شهد بعض ألاعيب السيد داهش.
كذلك كان من عارفي داهش، ومن الذين أشاروا إليه في كتبهم، الراحل جبرا إبراهيم جبرا، في بعض رواياته، وفي كتابه (البئر الأولى)، فهو مثله من بيت لحم قبل أن يكون عراقياً.
المعادلة الإسكانية مقلوبة هنا، فجبرا التلحمي عاش في بيت لحم وبيروت قبل وصوله بغداد، وداهش -العراقي الأصل- لم ير العراق بل ولد في بيت لحم، لكنه يعرف جبرا، كما سنفصل.
التنويم المغناطيسي
يقول جورج غانم إن سليم العشي كان يسكن مخيم الدهيشة الذي يقع في طريق القدس-الخليل، في غرفة متواضعة في المنطقة الحرجية الموحشة في الدهيشة، وقد اشتهر بالقيام بالسحر والقدرة على التنويم المغناطيسي.
الكاتب المهم الآخر التلحمي – العكاوي، هو المفكر هشام شرابي، وله مع داهش حكاية أخرى.
وكان من حضّار جلسات العشي- الدكتور داهش، العلّامة عبد الله العلايلي، الذي تعرض لعملية التنويم المغناطيسي التي كان يقوم بها داهش, وكان من مريدي مجلسه الشاعر مطلق عبد الخالق صاحب ديوان (الرحيل) والوجيه توفيق العسراوي وإسكندر شاهين ويوسف سلامة وعشرات غيرهم .
سليم العشي هو ابن (موسى العشي)، ووالدته (شموني حنوش) من سريان العراق، وقد هاجرا بعد زواجهما عام 1906 إلى فلسطين ليسكنا (بيت لحم) طلبا لبركة السيد المسيح عليه السلام.
ويأتي لقب (العشي) تحريفاً عن( أليشي) وهي تسمية النبي (اليشع) أو (يوشع).
لم يستطع موسى العشي الوفاء بالتزاماته البيتية بعد ولادة سليم عام 1909 وثلاث من بناته فاضطر للرحيل الى بيروت عام 1911 حيث عمل عاملاً في مكتبة، حتى سيق الى الخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى الى جبهة الدردنيل، وخرج منها مريضاً بالتدرن الرئوي ليتوفى عام 1920 تاركاً الزوجة وأطفالهما وهم يشبون بلا معيل سوى ما يحصلون عليه من دور الأيتام فانتقلوا لفترة الى طرابلس ثم عادوا بعد عام الى بيروت مرة أخرى.
قدرات عقلية
لم يحصل سليم الصبي على تعليم مدرسي منتظم، لكنه كان سريع البديهة تعلم القراءة والكتابة بيسر مدهش، وشرع بالعمل في أعمال يدوية ومكتبية عدة, والتهم الكتب التي كان يتزود بها من المكتبات العامة وهو يقوم بأعمال كثيرة غير منتظمة.
عندما بلغ العشرين من العمر عام 1929 وجد حوله الكثير من الأصدقاء الذين اهتموا بقدراته العقلية، التي وظفها بيسر لتكشف المستور من أحوال مجاوريه الذين كانوا يسعون -من خلاله- لتحليل أحلامهم وهواجسهم, وكان سليم ينطق بالحقيقة التي يريدونها دون توجيه من السائل.
ربع مليون كتاب!
تجلت موهبة داهش، لا في الكشف عن أسرار من يستعين به، بل في تأسيس مكتب او مكتبة لإصدار كتبه التي تجاوزت المئة والتي بدأت بـ (مراثي الآلهة) في جزءين عام 1927 ثم (قيثارة الآلهة) في جزءين أيضاً وفي نفس العام.
من كتبه (عشتروت وأدونيس)-(مذكرات دينار)- (نشيد الأنشاد)- وسواها الكثير.
كانت مكتبته الخاصة تضم نحو ربع مليون كتاب، وكان وفير المال يرتدي أنفس الملابس، ويستقبل خلانه ومعجبيه بكل ترحاب، وهو يتحدث عن أهمية التواد بين الأديان والعقائد, مؤكداً قدرة الروح الإنسانية على التسامي والوصول الى معنى الحياة عن طريق انفلات الفرد من واقعه اليومي المثقل بالموانع والمثبطات!
كان داهش يستعين بألاعيب السحر التي كان يتقنها للكشف عن بعض خوالج مرافقيه وزواره, وكانت من أشد المعجبين به الرسامة ماري حداد التي آمنت به وبـ (الداهشية) رسالة فكرية.
حرب مناشير
سببت له السيدة ماري مشكلة كبيرة مع رئيس الجمهورية اللبنانية أيامها بشارة الخوري، الذي كان زوج شقيقتها, وقد حاول منعها من مقابلة داهش دون جدوى فأمر باعتقاله –دون أمر قضائي- في 28 آب 1944، لكن داهشاً وأنصاره حركوا قوى الإعلام ضد رئيس الجمهورية الذي اضطر الى اطلاق سراحه وتسفيره قسراً الى حلب, حيث أودع السجن أربعة أيام، ثم وضع على الحدود التركية، لكنه عاد الى بيروت سراً، وشن حرب مناشير ومذكرات ضد بشارة الخوري، ليسكن بعدها في منطقة القنطاري في بيت عديل الرئيس الخوري السيد جورج حداد، حيث ارتفعت ضراوة حملة صحفية واسعة ضد الرئيس وليصدر بعد هذا كتباً ومنشورات متعددة, وكانت حملته هذه جزءاً من حملة شاملة ضد الخوري أسهمت في التحريض الجماهيري.
الرحلة إلى نيويورك
استقر سليم العشي ظاهراً في نيويورك، لكنه باشر بالقيام برحلات متعددة حول العالم منذ الثاني من آب 1969، إذ أجرى 22 رحلة حول العالم نتجت عنها كتابته 22 كتاباً عن هذه الرحلات إضافة الى كتبه الأخرى.
يقول تلميذه، غازي براكس، إن العشي أعلن الداهشية في 23 آذار 1942 وإن هذه الدعوة، التي لقيت استجابة كثير من المثقفين وذوي الرأي، كانت تدعو الى الروح ملاذاً، والى (الدين) الإنساني الواحد, وهي دعوة امتزج فيها الخيال بجنون العظمة الداهشي، وتشبه في حيثياتها دعوات ورسائل أخرى خارجة عن الدين السماوي، معتمدة على امتزاج مشاعر وأوهام فكرية.
استمر تأثير سليم العشي على أنصاره حتى اليوم، رغم وفاته في إحدى مصحات نيويورك في التاسع من نيسان عام 1984.
يقول جبرا إبراهيم جبرا في كتابه – البئر الأولى- : سمعت الكبار يتحدثون عن سليم العشي صديق أخي الأكبر مراد الذي يعمل مؤجراً ومصلحاً للدراجات في ساحة باب الدير, وقد كانوا يسمونه (سليم الساحر) بسبب الحيل التي كان يقوم بها
في السهرات, وقد تحول الى أسطورة بعد ذلك.
بين السحر والدين
ختاماً.. لابد من القول إن التجربة الداهشية الملفقة للتداخل بين السحر والدين, من حيث اعتبار الأديان كلاً متصلاً أمر يضيع تلك الخصوصية الجميلة التي يحظى بها كل دين سماوي على وفق تراتبيته, وأن هذا المزج الذي يضيع الخصوصية لكل دين أمر يدل على الاستخفاف وعدم الدقة في معالجة الصورة الروحية للإيمان, كما أن سليم العشي، في كل خياله الروحي، الذي اعتمد البنيان السحري المتداخل مع القول بوحدانية الإيمان، لم يأت بجديد, إذ سبقته أفكار وأديان أخرى غير سماوية, لكن ظهور سليم العشي في سنواته البيروتية رافقها نوع من التضخيم الصحفي والدعم من قبل المعارضين لبشارة الخوري، والمؤيدين لحرية الرأي، دون اهتمام بما يؤدي إليه هذا الفكر السحري الداهشي من تشظي الإيمان وتخبط المفكر الموجه –داهش- بين عمل الساحر –الشامان – وعمل رجل الفكر الديني.