بلفاست:الحرب الآيرلندية في ذاكرة طفل

288

علي الياسري

محلقاً فوق سماء مدينته الأم، يستعيد رجع الأمكنة ورائحة الزمن، ليرسم صورة متأرجحة على زجاج نوافذ الأيام حين يدلف من شباك الوقت إلى تلك اللحظة الفارقة، عندما تبدل الحال وأشرعت بوابات الرحيل لمغادرة موطن الصبا ومرتع الطفولة حيث الأحلام البسيطة هي أوسع الأماني.
عن تلك الأوقات -أواخر الستينيات- التي بدأت فيها الاضطرابات العنيفة والأزمات السياسية في مدينة بلفاست -عاصمة آيرلندا الشمالية- لتنعكس على واقع تبدد فيه التعايش السلمي، وارتفعت بدله نبرة حادة تستعر بنيران عداء طائفي يمثل واجهة سياسات خفية سعت إلى تمزيق وحدة المجتمع، يقدم المخرج والممثل (كينيث براناه) فيلمه، شبه السيرة الذاتية، عن ايام نشأته في ذلك الزمن الصعب، وما تلاه من رحيل قسري بسبب كل ما جرى.
عيون الطفولة
ليست المرة الأولى التي توثق فيها السينما ذاكرة الحدث بعيون الطفولة، ولن تكون الأخيرة حتماً، لكن براناه يُضفي عليها الكثير من صدق العاطفة، ويمهرها بتحليقات الخيال، فتجنح القصة إلى تفاصيل صغيرة صنعت أيام المرء، وصارت مرجعيات البسمة زمن البلوغ والتماعة الحنين في الأعين عند الكبر، كوقع الأخبار التي يبثها التلفزيون، او عندما كانت سفينة الفضاء (إنتربرايز) تجوب الكون بمسلسل (ستار ترك) فتنشد الأبصار إليها حين يحل موعد عرضها، الرحلات الى صالة السينما او المسرح، الألعاب التي يمارسها الأطفال بشغف في الشوارع والأزقة.
مشاعر الشخصيات
التطور العلمي وغزو الفضاء، مجلات الكوميكس والروايات السائدة، وحتى الأخطاء الصغيرة، كمحاولة سرقة حلوى من متجر الحي. يقدم المخرج كل مزاج الحقبة من ثقافة وأدب وعلوم وأسلوب حياة وتقاليد مجتمع، يستعيد روحها بتلك اللقطات للمدينة وعمارتها والمنازل وأثاثها والأزياء وموضتها، دون أن ينسى الأغاني التي شكلت ذائقتها، فيبرز (فان موريسون) كممثل للزمن وللحدث الدرامي ولمشاعر الشخصيات وأحاسيسها في مراحل الفيلم المختلفة. تُبنى مسارات السرد السينمائي على دقائق تُفصّل أسباب الحكاية وتضعنا في جوهر الموضوعة، حيث يبرع براناه في تجسيدها بصرياً، فحين تختفي الشخصية خلف زجاج مضبب، فذلك بسبب التشتت وعدم وضوح الرؤية، فيما عكست الأسلاك الشائكة والحواجز المزاج المتوتر، وكانت السماء المُلبدة بالغيوم والمطر الموحش نُذر القادم المجهول. بينما مثلت صالة السينما الصف التعليمي الأول لدروس الحياة مع هامش فيها للخيال يرتفع بالواقع إلى مستوى تبدو فيه الأشياء والأشخاص معلقين على بوابة الدهشة الملونة بديمومة الإبداع.
قلق المجهول
هذه وغيرها من تعابير الصورة الثرية يتألق فيها المكان دائماً، فتبدو النوافذ والأبواب مثل دروب سرية نحو عالم الذكرى، كل خطوة فيها تُعطي للحدث رونقه فيغدو بخيال الصانع أكثر جمالاً من حقيقته، كما أنها في الكثير من لقطات الفيلم إطار للشخصيات تندفع من خلالها الذكريات والوقائع الى الحياة كصور فوتوغرافية تتوهج بالعاطفة ضمن ألبوم عائلي. استخدام يحقق للمخرج غاية أخرى في سياق رؤيته السينمائية للشخصيات التي تعيش عوالمها الخاصة بالتوازي مع وجودها ضمن المجتمع، حيث يتشارك الجميع قلق المجهول المقبل وصعوبة العيش بسبب كل المعضلات الطائفية والسياسية. وتبدو كاميرا مدير التصوير (هاريس زامبرلوكوس) ذكية تعرف زاويتها المناسبة لكل لقطة تُلملم فيها سرديات المدينة وأسرار بيوتها وحديث الجدران، أمر ما كان ليظهر بهذه القوة التعبيرية لولا المونتاج الذي قدمته (آنا ني دونغايل) قادت فيه الإيقاع بحس رهيف يتسم بالنباهة لنوع الفعل الدرامي للمشهد، فينساق كل مرة بسلاسة خلفه، سواء بالسرعة او البطء، فاسحة المجال للإثارة التي ستنقلنا لاحقاً إلى الحنين. ومع الأبيض والأسود تمتلئ الصورة بتلك اللمسة المفعمة برونق الذكرى. إن أبرز مثال على هذا التناغم بين عناصر الفيلم هو مشهد انفجار العنف الطائفي، حينما تتحرك الكاميرا حول الصبي بادي (جود هيل) 360 درجة، ذلك لأن عالمه الوديع المسالم المليء بالفرح والمرح على وشك الانقلاب رأساً على عقب، وبدل الحب والتضامن ستسري موجة عنف وحقد وشكوك وريبة وخوف يتنامى في الأنفس تصب الزيت على ناره ألعاب السياسة القذرة. يلعب هيل (11 سنة) دوره السينمائي الأول بعفوية تضفي الكثير على شخصية (بادي) من خلال نظرة عينيه وابتسامته المترافقة مع نبرات صوته المتسائلة بفضول الطفولة، لتعكس تلك الاستفهامات البريئة والجاذبة بدهشتها لاستكشاف الحقائق، ومن خلاله وبلهجته الآيرلندية المميزة سنقترب من تلك الفكاهات حول الفروقات المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، إذ يتضح شكل علاقة براناه برجال الأكليروس في طفولته، فتتجلى ذكرياته عن مشاهد ساخرة لخطب دينية تزرع الرعب في النفوس الغضة بدل السلام والطمأنينة. لا ينسى المخرج مشاعر الحب الأول لفتاة الصف ولا محاولاته للفوز بقلبها بذلك الوهج الطفولي المُرتسم ابتسامات واسعة. لقد سار الصانع على حد المشاكل والاضطرابات ولم يقترب منها الا بقدر ما تلقفه صبي في مقتبل العمر، طارحاً تساؤلات عن شكل الهوية وطبيعة الانتماء، هل هو ما تولده الاختلافات الدينية وإرهاصاتها الطائفية والسياسية ام ما ينغرس في الروح من أحاسيس حقيقية تعتاش على تفاصيل المكان وناسه والبيئة الاجتماعية، تنبع من تلك الحكمة والمحبة التي يوفرها الأجداد كماء يسقي عود الحفيد ليغذيه بنسغ التفاصيل التي ترسم شكل الوطن.