كسلافسكي يقابل كسلافسكي
مقداد عبد الرضا /
من يقود من, أنت تقود الجمهور أم أن الفعل معكوس؟ تلك معادلة غاية في التعقيد. حينما تضع نفسك في شرنقة الجمهور من باب (الجمهور عاوز كده)، سينتكس عندك هاجس المعرفة وتظل تراوح في مكانك غير مؤثّر ولا معلّم, أما إن حدث العكس وحاولت أن ترفع من شأن المتلقي وتكون معلّماً نرفع له القبعة, عند ذاك تكون أنت واحداً من المساهمين في خدمة البلاد, كل البلاد, أعني أنك ستفسح المجال للنظّارة بالصفير والاحتجاج على الرديء في الصورة ..
في كتاب يقع في270 صفحة(كسلافسكي يقابل كسلافسكي) أنجزته دناسيا ستوك في نفس الوقت الذي أنجز فيه كسلافسكي ثلاثيته الاخيرة, فيلمه الاول (أزرق)حصل على الجائزة الكبرى لمهرجان كان, اما أبيض وأحمر فقد كانا في مرحلة وضع اللمسات الاخيرة, لقد صرح بأنه سيعتزل السينما بعد هذا الإنجاز ويبتعد, لكنه ابتعد كثيرا, لم نعد نراه الا من خلال أفلامه وحياته. جولي هي العنصرالرئيس في الفيلم (أدته ببراعة فائقة جوليت بينوش)، وجدت نفسها متحررة تماماً من كل ما يمت لها بصلة في الماضي, ترتطم سيارة زوجها ومعه ابنتهما بشجرة بعد أن رأينا النضح الحاصل في صمام الكابح, يموت الزوج وتموت الابنة, تحزن جولي, لكن هل سيبقى حزنها طويلا وتظل اسيرة له؟ لديها المال ولا مسؤوليات تقف عائقا في طريقها. هنا يبرز سؤال: هل الشخص الذي في مثل وضع جولي يعد شخصا حرا؟ لاندري لماذا اعتقدت انها اصبحت طليقة, هل بسبب انها قوية, لابد لنا اذا من متابعة سر هذه القوة, لابد ان تكون حياتها مغايرة تماما لتوقعاتنا. كان من الممكن ان تظهر جولي في مشاهد عدة, تزور مكان الحادث مثلا, تذهب الى الشرطة للتحقيق في موضوع الحادث, تزورالمقبرة, تنظر في البوم صور قديم وتترقرق عيناها بالدموع. في هذا الفيلم ليس هناك ماض, لقد قررت جولي ان تقفز فوق ماضيها وتعبره الى الجهة الاخرى, اليوم التالي, حياة اخرى, مستقبل آخر مخلفة وراءها كل مايقيدها بما قبل الحادث, احساسها بالماضي يأتي عن طريق الموسيقى فقط, ما ان تستمع جولي الى الموسيقى حتى تحيلنا بأدوات تمثيلها الهائلة الى الماضي, لكن هل بالإمكان كسر قيود الماضي جميعا؟ هناك رواسب تبقى عالقة ولا يمكن التخلص منها, ان الشعور بالوحدة يقود ابدا الى الماضي, كذلك يفعل الخوف. تشعر جولي لوهلة انها لو بقيت متعلقة بالماضي فستخدع نفسها, هل يمكن ان يكون الحب قيداً؟ وانت مأخوذ بشاشة التلفزيون, ماذا يعني لك ذلك؟ انت حر ام سجين التلفزيون؟ اذا امتلكت جهاز ستلايت فبامكانك مشاهدة معظم محطات العالم, لكن يتوجب عليك ان تشتري الأدوات والأجهزة المتعلقة به لتتمكن من المشاهدة وان أى خلل يحدث قد يقودك للذهاب الى المهندس لإصلاحه, اضافة لذلك ستتحول الى انسان ينقاد لما يسمع ويرى عبر هذا الجهاز, انت حر في اختيارك لما ترى من خلال تلك المفاهيم النظرية، لكن في المقابل واقع تحت ضغط الآلة واجزائها والتي لايمكن الفكاك منها في الوقت الحاضر, الأمر كذلك ينسحب على العواطف, هل انت حر حينما تقع في الحب كما تتصور(تقع في الحب)؟ هل الحب سجن هو الاخر؟ أنت أسيرلمن تحب, دفعة واحدة تصبح منفذا لرغبات من تحب وليس رغباتك, تتذمر في داخلك وتحتج لكن هيهات لك ان تفصح عما يجول في خاطرك من احتجاج, انت تعيش من اجل اسعاد الآخر, اذا انت سجينه, تسعد في الزمن الذي تقضيه مع من تحب, لكن هل انت سعيد مع ميولك العفوية او مزاجك الشخصي؟ هي ذي خلاصة مفهوم الحرية في الأفلام الثلاثة التي أحاول أن أنجزها: أزرق, الهيمنة فيه تتصاعد بفعل العواطف, اوامر القلب, الماضي, الذكريات. تحاول جولي دحر الماضي, انطلقت تعيش بحرية, بسلام, انتوني الداخل على حياتها بشكل مفاجئ يجعلها تضحك من اعماقها, تسير لفترات طويلة, السير يمنحها الحلم, التطلع, المعرفة. فجأة يبرز شيء لم يكن بالحسبان, الغيرة التي بدأت تسيطر عليها وتفقدها حريتها, لامناص منها, انه حقا لشيء يبعث على الغثيان والقرف وانت تشعر بالغيرة حول انسان مضت على وفاته اكثرمن ستة اشهر, حاصرتها الغيرة وهي ازاءها تقف مستلبة لايمكنها فعل أي شيء ازاء هذا الاقتحام, انه ميت لاتستطيع ان تقول له انني أحبك او أكرهك, لسعتها الغيرة حينما كان زوجها على قيد الحياة, انه الفخ, الحب, الشفقة, الصداقة, فخاخ نصبت ولا يمكن التخلص منها. “لقد فكرتُ كثيرا كيف أجعل من حياة جولي قلقة, مضجرة, مملة. عليك ان تفكر بإيقاف الزمن مثلا, وهذا ما ذهبت اليه فعلا, اوقفت حركة الزمن بواسطة (الفيد ان) و(الفيداوت) أي اختفاء الصورة وظهورها, اختفاء الصورة يعني الانتقال الى زمن آخر أو مكان آخر, هذا ماهو معمول به في السينما, لكن قلت لأنحرف عن هذا السائد, وفعلا بدا الزمن يتوقف أمام جولي.” يقول لها الصحفي الذي عاودها في المستشفى: مرحبا، تختفي الصورة ثم تظهر لترد جولي على الصحفي بكلمة مرحبا, هنا اشارة بان الزمن قد توقف بالنسبة لها, نفس الشيء يحدث حينما تأتي الراقصة جارتها الى حوض السباحة وتسأل جولي: هل أنت تبكين؟ يتوقف الزمن هنا باختفاء الصورة وظهورها لنرى ان جولي كانت تبكي فعلا, هناك شيء اخر, يسالها انتوني: هل ترغبين في معرفة شيء ما؟ ساذهب الى السيارة بعد لحظات، ترد عليه: كلا, وفجأة يتوقف الزمن بالاختفاء والظهور, انتوني شخصية مهمة جدا ليس فقط بالنسبة لجولي, بل لنا ايضا نحن النظّارة، انه شخص يرى اكثر مما تشاهده جولي, يخبرنا باشياء لم نكن نعرفها عن حياة زوجها, ماذا نعرف عن زوجها؟ بضعة اشياء, انتوني يسكت فضولنا بمعرفته الكثيرعن زوجها. سنعرف انه من ذلك النوع الذي يكرر الدعابة, ينبهنا لقاؤها مع انتوني بأنها بدات تضحك, الأمر الذي لم تكن تفعله قبل لقائها به, اذن هو مصدر سعادتها ومرحها لذلك كانت حريصة على مواصلة جولاتها معه, لكن ما ان يغادرها حتى تغادرها الابتسامة. يتبع الجزء الثاني