منارة سوق الغزل التي أخطأ الجميع في تاريخها!

1٬191

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

نشرت جريدة الشعب الغراء قبل أيام خبراً صغيراً في صفحاتها الداخلية، مؤداه ان الحكومة عازمة على استقدام مهندس من مهندسي الأوقاف في تركيا كيما يعد خرائطه ودراساته لجملة من المشاريع من بينها إعادة انشاء جامع الخلفاء، وقد داخلني من الخبر ذاك شعور عميق بالسرور، بهذا الأثر التاريخي الذي لم تبق منه اليوم سوى منارته السامقة، شامخة تتحدى الزمن والفناء.

وأحب بهذه المناسبة أن اقدم جملة من اخبار هذه المنارة التاريخية التي عدا الزمن على جامعها العظيم.

من المعروف اليوم ان اسم الجامع الذي كان مقاماً على مقربة من هذه المنارة هو جامع سوق الغزل وهو بالتأكيد غير جامع الخلفاء الذي يذكره المؤرخون احيانا باسم جامع الخليفة او جامع القصر، وقد انشأ هذا المسجد الجامع سنة 1235م الخليفة قبل الاخير من خلفاء بني العباس وهو مشيد المدرسة الخالدة العظيمة المعروف حتى الان باسم المدرسة المستنصرية.

حكم المستنصر بالله منذ عام 1226م حتى 1241، أعقبه الخليفة المستعصم بالله آخر خلفاء الدولة العباسية. غير ان المستشرق الانكليزي لترانك مؤلف كتاب “بغداد في زمن الخلفاء العباسيين” يذكر انه جدد هذا المسجد الجامع وحسب ولم يقم بتشييده. ويذهب هذا المذهب السيد محمود شكري الآلوسي فيقرر بأن الإمام محمد المهدي هو الذي شيد الجامع المذكور في اوائل خلافته التي استمرت بين عام 775م حتى 784م وقد بناه في الجانب الشرقي من بغداد “أي جانب الرصافة” فجعل فضاءه واسعا وبلغ من سعة مصلاه انه كان يتسع معه لخمسين الف نسمة من المصلين، غير ان الاستاذ محمد بهجة الأثري يسمي الجامع المذكور باسم جامع الرصافة خالطاً بين اسم جامع الرصافة الذي بناه المنصور وبين جامع الخلفاء موضوع البحث الذي يعود عهده الى اخر ادوار العصر العباسي.

وتبلغ هذه المنارة التي دخلت الان مئتها الثامنة من الطول خمسة وثلاثين متراً، وكانت عهدا ما أعلى بناية في بغداد!

وهي ذات سلمين داخليين، وحين سقطت بغداد صريعة تحت اقدام الفاتح المغولي الجبار، هولاكو، انتهى بذلك مجد العرب العباسيين واصبحت بغداد والعراق بكامله ساحة قتال أبدي بين الأقوام الغالبة المتناضلة طيلة السبعمئة عام الممتدة بين 1258م ويومنا هذا، غير ان العثمانيين ما ان استقر بهم المقام نهائياً في العراق. حتى عمدوا الى بقايا جامع الخلفاء فهدموه وجعلوه دوراً واسواقاً وبيوتاً منها السوق الذي كانت تباع فيه الغزول “ولا تزال” ومنها السوق الذي يؤمه اصحاب الطير من “المطيرجية” وكان على جانبي جامع الخلفاء المذكور ميلان حجريان شامخان هدمهما –وا أسفاه- والي بغداد ابو سعيد سليمان باشا الذي تولي حكم بغداد منذ عام 1779م وبنى بانقاضهما هاته الأسواق.

غير ان سليمان باشا المذكور شيد مسجداً اخر يقع على مقربة من هذه المنارة وقد جعل له مدرساً وإماماً وجملة من الخدم وقد هدم هذا الجامع في العام الماضي وقد زعم بعض المؤرخين ان باني هذه المنارة هو علاء الدين الجويني الذي حكمه هولاكو واليا على بغداد بعد سقوطها.. ويقال ان الخلفاء كانوا يأتون جامعهم ذاك من نفق ممتد تحت الارض حتى دجلة حيث يدخلونه عقب نزولهم من زبازبهم اي زوارقهم. وممن اهتم بهذه المنارة الخالدة من الاجانب عدا المستشرق الانكليزي جي لسترانك الذي ذكرناه المستشرق الفرنسي الكبير ل يو ماسينيون فصورها وصول الكتابات الكوفية عليها، هذه الكتابات التي اوشكت ان تزول الان، او زالت تماماً، وقد ورد ذكرها ايضا في مذكرات الرحالة الالماني نيبور الذي مر بالعراق عام 1766م فصورها وتحدث عنها في كتاباته وقال ان لصق الباقي من جدارها مقهى حقير.

وختاما اورد حديثاً طريفاً يتصل بأمر المنارة المذكورة وخلاصته ان الانكليز عند احتلالهم العراق عام 1917م رأوا ان المنارة ماثلة للسقوط فبعثوا مهندسهم كي يدرس امر تهديمها غير ان جهود المرحوم خالد الذكر محمود شكري الالوسي والأب العلامة انستاس ماري الكرملي وسواهما من رجال ذلك العهد سعوا لدى الحاكم السياسي او المندوب السامي البريطاني فترك موضوع تهديم المنارة واكتفى بتقويتها من الاسفل بانشاء كرسي حجري لها وهكذا نجا هذا الاثر الخالد من الدمار.

هذه لمحة خاطفة قد تلقي ضوءا ما على تأريخ جامع الخلفاء المندثر ومنارته الباقية وعلى مسجد سوق الغزل الذي زال الى الأبد من وجه الأرض بعد ان غمر فيها مائة وثمانين عاماً.