شكوكو يروي قصته كان الجوع في حياتي هو القاعدة والشبع هو الاستثناء!

940

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

صبي نجار حافي القدمين يرتدي جلباباً وطاقية أخفت الأصباغ و”الغرا” لونهما الأبيض وأحالتهما مزيجاً من ألوان متنافرة ليس بينهما انسجام. دخل الصبي “الحارة” القذرة يتمايل ويدندن بصوت خشن ليست فيه نعومة ولا جمال، ثم دلف الى دكان نجار صغير وكان صاحبه هو والد الصبي ومعلمه في نفس الوقت..

التفت الرجل الى ابنه وكلفه ان يعمل في ركن من الدكان، واخذ الصبي يعمل بينما كان ابوه يذيب بعض الغرا على النار ويقلبه في الوعاء حتى تسهل إذابته.. وبدأ الصبي يدندن.. وتململ الرجل والتفت الى الصبي

– أما قلت لك ان تقفل فمك ولا تغن؟.. أليس من الخير لي ولك ولأمك ان تتعلم النجارة لتعرف كيف تكسب عيشك، وصمت الصبي.. ومرت فترة هادئة.. ثم عاد صوته الأجش مرة اخرى يتجاوب مع صوت المنشار والقدّوم والمطرقة.. لقد نسي النصيحة سريعاً!.. وفجأة ارتفعت فرشاة الغرا من الوعاء الساخن وطارت في الهواء واستقرت على وجه الصبي تكويه بنارها ثم طارت قطعة اخرى من الخشب لتهوي على صدره وخرج صائحاً من الدكان تلاحقه الشتائم!..

الدخان الأزرق!..

ويصف هو هذه الفترة من حياته فيقول:

– كانت لي حياتان.. من الصباح حتى المساء في الدكان، ثم نغلقه، ويمضي ابي الى قهوة المعلمين، وامضي انا الى قهوة اخرى لم تكن قهوة معلمين!

كانت بؤرة مظلمة في اعماق حي الزهار.. وكان جوّها القاتم الذي تضيئه المصابيح المرتعشة يبعث على الرهبة اكثر مما يبعث على الطرب، ولكنها كانت الأفق المنشود بالنسبة الى الصبي الشريد الذي يبحث عن سامعين. وبدأ الصبي الشريد يشق طريقه في هذا الأفق ويزداد نجاحه ليلة بعد ليلة.. وكان كل يوم يمضي عليه يبعده عن الغناء الى المونولوج، فلم يكن يستطيع ان يصل الى قلوب مستمعيه الكالحة الا عن طريق إضحاكهم، ومن هنا بدأ الصبي يتعود إضحاك الناس وبدأ شيئاً فشيئاً يأخذ طابعه الذي سار فيه بعد ذلك.. ثم جاء يوم.. انتابت الأب وعكة مفاجئة فعاد الى المنزل ولم يكمل سهرته، وهناك عرف ان ابنه لم يأت بعد ولم يكن يعرف من أمر سهره الليلي شيئاً فقد كانت أمه تتستر عليه وتكتم سره وتخفي عن أبيه انه يتسلل الى المنزل كل ليلة قرب الفجر.. وثار الأب ونزل يبحث عن ابنه واقتحم القهوة ذات الدخان الازرق فطالعه صوت أجش يعرفه.. واتجه اليه وامسك الفتى وخرج به من القهوة الى المنزل..
ويقول هو:

– كانت المسافة بين القهوة والمنزل مئتي متر استطيع ان اقسم ان كل سنتيمتر منها شهدني وانا اتلقى ركلة او لكمة او لطمة!
الشريد..!

ولم ينم هذه الليلة.. وفي اضواء الصباح الاولى تسلل من المنزل خارجاً.. لقد انتهى به تفكير ليلة كاملة الى هذه النتيجة.. ان مقامه في منزل اهله قد انتهى.. و”النجارة” هي ماض لن يعود..! ولم يكن في جيبه غير ثلاثة مليمات! ولم يكن معه من الملابس غير تلك الأسمال التي كان يرتديها مزينة بالأصباغ والغرا! وكان أمله معلقاً في رجل من رواد القهوة ذات الدخان الازرق قال له مرة أن له اصدقاء من الفنانين وانه يستطيع ان يضمه اليهم ليتقاسم معهم السراء والضراء.. ولحق بهؤلاء الفنانين فعلاً..ولكنه اكتشف أن عليه ان يتقاسم معهم الضراء فقط فلم تكن في حياتهم سراء.. ابداً..! وبدأت الفرقة الشريدة تنتظر دعوة الى حفلة او فرح لتضمن لأفرادها العشاء! ومضى الليل بلا أفراح.. وفي اليوم الثالث كانوا يجلسون كأنهم أشباح.. وفجأة دخل القهوة رجل فاذا جو من الاهمية يجتاحها ونهض الجالسون اليه يحتفون به وجلس هو بينهم.. والتفت احد افراد الفرقة البائسة الى الشريد الصغير وقال له:

– تقدم..

– لماذا؟

– هذا “سي كامل”

– كامل..؟ من هو “سي كامل”؟

– كامل الخلعي.. انه اعظم موسيقي في مصر..!

وأخذ الصبي مكانه في الحلقة حول “كامل الغلعي” يستمع باهتمام..!

سنوات الجوع!

ومضت سنوات سبع على هذا الحال من سنة 1928 حتى سنة 1935.
كان الجوع هو القاعدة والشبع هو الاستثناء كانت الاقدام ترزقهم “بسهرة” او “فرح” يظلون فيه ثلاثة ايام ثم توزع الأرباح عليهم فلا يزيد نصيب الواحد منهم على قرشين.. فقد كانت الفرقة كلها تتقانى ريالاً واحداً.. وكل افراحها كانت في ازقة من القاهرة وزوايا لم يدخلها الضوء بعد.
ويقول شكوكو انه في هذه الفترة دخل كل حواري القاهرة وطاف بكل أزقتها.. ولم تكن “الفرقة” ترحم نفسها.. في الايام التي لا سهر فيها ولا أفراح كانوا يعملون في الشوارع لأنفسهم.. الفن للفن.. اما لقمة العيش فهي حلم في ظلام الغيب!
ويقول:

– مرة واحدة رأينا فيها شكل “الجنيه”

سمعنا ان هناك عيداً كبيراً في حارة اليهود اسمه عيد “المسخرة” وذهبنا الى عيد المسخرة.. وظللنا نشتغل في حارة اليهود اسبوعين كاملين قبل العيد وبعده.. كنا نغني ونرقص ونعمل كل ما في الطاقة البشرية لكي نستدر الضحك.. والقروش..! وانتهى العيد وكان معنا رصيد مكون من عدة جنيهات وهكذا رأينا شكل “الجنيه” لأول مرة! “وفي بداية سنة 1935 لاح في الافق امل جديد لي.. سهرنا مرة في فرح في المدبح واعجب بي معلم اسمه “أبو موسى” وكان من اشهر الجزارين في المدبح وبدا الرجل يساعدني ويعدمني في افراح معلمي “المدبح” وهكذا جاء عام 1936 والفتى الشريد قد اصبح “فتى المدبح المدلل”..!

كل حفلات “المعلمين” هو بطلها وهو نجمها.

وجاءت الايام الخضر وبدا يعرف طريقه الى بعض الفرق الصغيرة الجوالة.. ثم الى بعض الفرق الكبيرة. وفي بداية سنوات الحرب كان الصوت الاجش الخشن قد بدا يعرف طريقه الى آذان كثيرة.. وهكذا وصل.. من تحت لفوق!

من فوق لتحت؟

وهو اليوم زوج وأب لثلاثة أطفال..

وقد أصبح مشهوراً وغنياً.. في كل عام يظهر في اربعة افلام يأخذ في الواحد ألفاً من الجنيهات ويصل دخله من الافلام مع دخله من الحفلات الى عشرة آلاف جنيه في السنة..!

ومع ذلك فهو يقول:

– “اننا اشبه بالموضة..

اليوم يطلبنا الناس ويجرون وراءنا وغدا ينفضون من حولنا وتنطفئ أنوار الشهرة وانا لهذا أدخر مالي..

اني لا أزال احتفظ بعدة النجارة التي كنت أعمل بها وأحس اني سأعود اليها..

بارك الله فيكم!