هل البرابرة هم الحل؟

388

#خليك_بالبيت

مقداد عبد الرضا /

أحياناً تكون السينما الوثائقية أهم بكثير من سينما السرد أو الرواية, أشاهد كثيراً منها وأفكر أو أتأسى على كل الوثائق التي ضاعت وتضيع، والتي ستضيع مستقبلاً في بلادنا. كثيرون للأسف لا يعرفون أهمية الصورة ويتجهون إلى الصوت في محاولة للحفاظ عليه لأنه الأسهل, لكن الصوت أحياناً يخضع للغش والتزوير ويسهل التلاعب به على العكس من الصورة التي هي الأساس. والفيلم الوثائقي هو تاريخ لا يمكن إلا أن يكون شهادة ناصعة على الأحداث, أياً كانت تلك الأحداث .
القصيدة التي رددها كثيرون وأعجبوا بها وغيّرت مفاهيم إنسانية كثيرة وستظل تتردد، إلى ما شاء الله من الزمن: (في انتظار البرابرة) للشاعر اليوناني (قسطنطين كافافس).
لقد حفظناها عن ظهر قلب، وعُدّ التغني بها نوعاً من الخلاص والحرية. الشاعر العراقي سعدي يوسف تصدى لهذه القصيدة وترجمها. في الجانب الآخر هناك من تأثر بهذه القصيدة وأحدث تناصاً في رواية تحمل الاسم نفسه (بانتظار البرابرة)، وهو الكاتب (ج. إم. كوتزي – حائز على جائزة نوبل)، وترجمتها إلى العربية السيدة ابتسام عبدالله، مشكورة. ومن هذه القصيدة أيضاً خرج لنا الكاتب المهم (دينو بوزاتي) برواية رائعة: (صحراء التتار)، حيث القلعة التي يعيش فيها بعض العسكر وهم أبداً في انتظار, ويظل السؤال: ماذا ينتظرون؟ ولعل هناك تناصاً بين ما أبدعه الكاتب (صموئيل بيكت) في مسرحية (في انتظار كودو) وبين ما ذكرناه سابقاً. لكن علينا أن نعرف أن الجميع خرج من رداء الشاعر (قسطنطين كافافس). الجميع ينتظر ويتوق إلى الخلاص، فهذا العالم شيء غير متقن للغاية، على العكس مما يقوله (كازنتزاكي) في (المسيح يصلب من جديد) على لسان الآغا: “هذا العالم شيء متقن للغاية, لا تنقصه صغيرة أو كبيرة, إذا جاع المرء وجد الخبز واللحم، وإذا عطش وجد الشراب المقدس: النبيذ, أما إذا تملَّكنا الغضب فقد خلق الله لنا السياط وأدبار اليونانيين.”
هنا يبرز السؤال الآتي: هل يأتي المخلِّص أم هي لعبة دجّنتنا حتى بات الانتظار نوعاً من أنواع الخدر نمارسه كي نقنع أنفسنا بأن هناك فعلاً من سيأتي ويأخذ بأيدينا نحو السلام ويخلصنا من هذا الجحيم الدائم؟
في هذا الفيلم غياب للمكان والزمان، فنحن لا نعرف أين تقع هذه القلعة ومتى هو زمنها, تظن الإمبراطورية أن هناك غزواً محتملاً من البرابرة، ما يشكل خطراً عليها، فترسل أحد الضباط (جوني ديب) ذا الملامح القاسية المتعجرفة, والوجه المتصلب، تساعده النظارة المستديرة التي يضعها على عينيه لتمنحه كثيراً من الجدّية والقسوة والحزم، كما يقول عندما يلتقي القاضي الذي يحكم القلعة, القاضي الذي هو عصا الوسط بين الإمبراطورية والبرابرة. الضابط المتجهم لديه معلومات تفيد بأن البرابرة يعدّون لهجوم وأن عليه في هذه الحالة أن يتعامل بقسوة معهم، وهذه القسوة هي الطريق الوحيد لانتزاع الاعترافات منهم، وجرّاء ذلك يحدث تقاطع حاد بينه وبين القاضي، وهذا بدا جلياً منذ اللحظات الأولى، لذلك تجد أن القاضي يسال الضابط بطريقة تهكّمية:
– ما فائدة هذه النظارة التي ترتديها (التي ستثير حفيظة السجينين البريئين المتهمين بالسرقة).
– انها تقي من الشمس وتقلل التجاعيد حول العينين والصداع.
القاضي يعرف كثيراً عن القلعة فهو يعيش باسترخاء مع طيب أهلها:
– الإنسان حينما يشيخ يصبح جزءاً من المكان، لذلك أشعر بأنني غريب عن العاصمة.
يقطع الضابط هذا الاسترسال العفوي بأمر الغد الذي سيكون جولة تفقد القلعة وتفاصيلها، وهذا يعني المرور على السجن وملاحظة ما يدور هناك, ليس هناك سجناء حقاً، هناك اثنان فقط اتهما بسرقة ماشية وهما لم يفعلا لذلك, إنهما فقط جاءا من أجل البحث عن عقار لوجود تقرحات في معدة أحدهم, يتعامل القاضي مع الحالة بكثير من الرحمة ويحاول أن يشرح الأمر للضابط:
“أياً كان الأمر فالقضية لا تستحق السجن, ثم أن البرابرة لا خوف منهم لأنهم في حالة ترحال وتنقل.”
هذا الضابط جاء يحمل في دواخله الشك والصبر وسيتحرى ويجمع المعلومات عن كل ما من شأنه أن يوقف الاعتداءات على الإمبراطورية التي هي أصلاً غير موجودة من وجهة نظر القاضي الذي يتعامل بعفوية، في حين يتعامل الضابط بشك وتوتر. ومن هنا يبدأ الصراع, ضغط وأكاذيب ثم ضغط أكثر وأكاذيب ثم تدمير: “وستجد كل الاعترافات بين يديك وسوف تصل إلى الحقيقة.”
القاضي يعتني بامرأة تعرضت للتعذيب وسُمِلَت عيناها، وكما فعل المسيح يغسل قدميها وينام عندهما, لعله الحب, تُطلعه على مواضع التعذيب في قفاها, يقرر أن يعيدها إلى قبيلتها من البرابرة، ما يثير حفيظة الضابط الذي ذهب لمقاتلتهم وجلب بعضهم, (مشاهد الترحال ومحاولة الوصول إلى البرابرة بدت كأنها مكررة ما أضعف بعض أجزاء الفيلم). يقف أهل القرية مستمتعين بهذا المشهد القاسي, إنهم يعلِّمون حتى الأطفال على القسوة، فالفتاة الصغيرة تأخذ العصا وتنهال على جسد أحد البرابرة بين ضحك أهل القلعة واستمتاعهم, يعترض القاضي على هذه القسوة، ولاسيما بعد أن يرى الضابط (جول) يحاول أن يستعمل المطرقة في القتل. يحتج القاضي بأنهم بشر ولا يمكن معاملتهم بهذه الطريقة القاسية, ينهال عليه الجنود بالضرب بقسوة ويودعونه السجن. أثناء الضرب المبرح يغمض عينيه من الألم فيرى المرأة التي أعادها إلى قبيلتها تجلس وسط الصحراء وهو يتقدم نحوها بحب, يخضع للتعذيب والإهانة جرّاء هذا التصرف ويخضع لاستجواب قاس. الضابط في مهمة الحرب مع البرابرة, يجب على المرء أن لا يأخذ البرابرة باستخفاف. يعود القاضي إلى مكانه الطبيعي بعد أن عُلِّق وُعذِّب، لكن الأمر اختلف, البرابرة يحققون نصراً, يعود بعض جنود الإمبراطورية إلى القلعة وهم يحاولون جهدهم للحصول على خيول للهرب, ألم نقل إنه يجب عدم الاستخفاف بالبرابرة؟
على مستوى الأداء؛ الممثل الشيكسبيري (مارك ريلانس) تكاد لا تتبينه وأنت تشاهد أداءه البارع في هذا الفيلم ولا تصدق أنه هو نفسه الذي أدى دور العملاق في فيلم (ستيفن سبيلبيرغ (B F G) (حتى لتشعر أن أداء جوني ديب باهت أمامه, هذا الفيلم والراوية التي تحمل الاسم نفسه هما رسالة سلام ومحبة بين شعوب الأرض قاطبة .