على ضفة الهوى

1٬173

رنا سفكوني /

في سالف هذا العمر ظننت بأني من أب عراقي وأم سورية، كنت في غالب نعاسي أميل نحو غفوتي بعد أغنية أو اثنتين على مقام الحجاز، كانت عيناي تتعلقان في سقيفة الغرفة الصغيرة وأنا أسمع أبي يدير إبرة الحاكي ثم يتوقف عند أغنية “فوق النخل”، وكنت أبحث عن “الخل” في سقيفة منزلنا لربما أستطيع تبيان ملامحه أو هيئته، التي أثارت حفيظة الشاعر فخلده بأغنية تكاد تنغرز في ذاكرتي كوريد لا يكف عن تغذيتي بلحن الأغنية.
أدندن بها دون أن أدرك بأنني أمرّن روحي على الطواف حول المقام الموسيقي.
لم يكن حضور الأغنية في منزلنا متعمداً، بل كان مصادفة أشبه بفخ يحمل نية اصطيادي.
فكرت بالمصادفة كثيراً، لماذا كلما أدار أبي إبرة الحاكي القديم تصدح منه نفس الأغنية؟
لماذا لا أكف عن النظر إلى السقيفة؟
ولماذا تحوّلت هذه الأغنية إلى بوابة موسيقية أعبر من خلالها باتجاه باقي المقامات.
لم تكن لدي من إجابة تفضي إلى حقيقة ومنبع تلك المصادفة، ولم تكن لدي رغبة في مطاردة السؤال، تركت الأسئلة لشأنها، وتركت نفسي لهذا الغزو الموسيقي الذي أتاح لي الوقوع في الغرام مرة أخرى، حدث ذلك مع أول أغنية موليّة سمعتها.
أغنية على قدر بساطة كلماتها، وخفة لحنها، ورشاقة أبياتها، حملتني إلى اعتقاد بأن لي نسب طاعن في الماء، الماء الذي ينام بين ضفتين، ضفة سورية، وأخرى عراقية، ضفة حملت اللحن والأخرى حملت القصيدة.
لم أكن على خطأ، أنا التي ولدت بين ضفتين لا يبعدهما سوى مجرى الدمع الذي استحال إلى مورد لا أكف عن الورود إليه.
ولدت على يد بدوية سورية تزوجت من شاعر قضى العمر في التقاط البلح ومغازلة ساق نخلة.
ثم رحت أفتش في جسدي عن علامة فارقة إلى أن وجدت سلماً تموضعت عليه سبع حبات بلح كعلامات موسيقية منحتني صفة “السمّيعة”.
صفة جعلتني أمشي خلف اللحن كما تمشي الخراف خلف ناي راعيها.
كبرت، ثم كبرت، ثم كبرت أكثر وسط حشد من الأشخاص الذين لا ينفكون عن جعل النجوم قناديل ليل لسهرهم الطويل، وتكحيل أصواتهم بالأغنيات، وأية أغنيات تلك التي صارت أسلوباً للتعارف فيما بيننا!
لم نعد نلقي التحية على بعضنا، صرنا نلقي الأغنيات بدلاً من الترحيب والوداع، أغنيات ينحدر نسبها من عراق يفيض بمقامات الحب، نرددها بحناجر سورية، ثم نرفع سقف الدهشة بالاستماع إلى ناظم الغزالي، فؤاد سالم، لميعة توفيق، زهور حسين، سعدون جابر، سليمة باشا، وأسماء كثيرة تاهت بها ذاكرة الزمان والمكان.
لم أجد قرابة أمتن من مقامات تجعل من ضفتين معتادتين على جريان اللحن أكثر من سورية والعراق.
ولم أسأل يوماً: لماذا كلما بنينا بيتاً كان النخل بوابته؟ ولماذا كلما بكى شاعر في العراق كفكف دمعه قارئ من سوريا؟ ولماذا حين يذهب الدمشقي حاملاً فراغ قلبه يعود محملاً بالبلح.
وقلت في نفسي، إذا أضاع المحب فينا خلّه، لا مخافة عليه من النوى أو من أثر الغياب، يكفي أن يستحضر أغنية ” البارحة” لسعدون، أو “يا ام العيون السود” لناظم”، أو ربما تكفي تلك الموليّة التي جاءت من نسل امرأة بدوية وتزوجت بشاعر قضى العمل بالتقاط البلح.
كيف أهوى دون أن أضع في جيب الحبيب أغنية تدغدغ القلب تحت الجيب، كيف لا أهمس له:
“قل لي يا حلو من اين الله جابك”؟
وكيف لا أختم مقالي هذا بوجد يطيح بهذا القلب مدندنة:
“دقّت شذر يا ناس، والشامة عنبر
والوجه مبعث نور، والصدر مرمر
خايف عليها..
وتلفان بيها
شامة ودقة بالحنك
من يشتريها”.