أحبك ياحلو يسمَر يخمري
أحمد أبو الحسن- رسم : فرهاد بيبو /
يوم كانت الأصوات عالية، والموج بليداً، ولا جسور للفرات تربط ضفتي الأغنية.. انشطر الفرات وهاجر الجريان الى المعنى ليغتسل بثوب الحلة.. يومها كان صوت سعدي ينشد “كلها منك”، حيث سعدي الحلي يطهّر الغيم ببياض الحمام، ويراقص النخل السكران على ضفاف النهر.
كيف للفرات أن يكون فراتاً بلا ذاك الصوت المدهون بلون الليل، بلا تلك التخريمات الممزوجة بـ أويلي.. هو الفرات لأنه أدرك منذ مطلع جريانه ذاك الحلي الذي يترنّح صوته كالشناشيل الخضر في الأزقّة.. لم يكُ ليل المدينة طاهراً حتى ارتفع كمان فالح وليونة كلمات القصاب محمد وصوت “أبو خالد” اليشبه هفيف العباءات في ظهاري الدرابين، كان لصوته رنين خمرة عذراء، ربما خدر جلسة ظهرية في مقهى حرّان، او تجوال ليلي في حديقة النساء.
من المهدية، رئة الحلة وكاتبة بعض تاريخها السري، من عكد منسي خرج هذا الصوت ممزوجاً برهدنة الحلّيات، ورندحة الحلّيين، أدرك تلك الجبنة البيضاء في أوتاره من تنويمات الأمهات البيضاوات الغارقات في ظل حواش المهدية والجامعين والجباويين، من تلك الفوط البيض التي ترطن بلكنات غريبة أحياناً، لتعدو صافية في لكنتها الزرقاء.
لم يكُ سعدي الحلي عالماً ولا متعلماً، كان سائقاً ينقل الهموم والفرح بين ضفتي طويريج والحلة، وكان صوته يرعى سكون الحقول ومنامات الفخاتي، وقد أدرك سر “الطويرجاوي الكبير”، ذاك الذي وضع قواعد الفتنة في النغم الحلّي، وأسس شرائع اللحن، فكان سعدي يتلبسه ويقتنص منه تلك المساحات الرهيفة والمتقطعة، تلك الأنفاس الممدودة، تشبه الحلة، انها تجري ولاتمتد، تشهق، ولاتتنفس، هي تنويمات ترفٍ وانٍ لبست وشاح الألم، لذا كان الأطفال ينامون وسط دموع أمهاتهم، غرقى بالسكر والإصغاء..
هو كلكامش بابل، اختلط في مناحات فقدان انكيدو، وبكاءات عشتار “ارمانوسة بابل” او “إنانتها” التي تقود العزاءات بحثاً عن تموزها الغائب.. ربما لايغرق سعدي بالحزن كعادة المغنّين في الجنوب، لأن بعضاً من رقراق النهر ينتشله، لذا فهو أحيانا يسكن بين العتب، والحنين، يؤاخي بين الفتنة والوجع.. ذاك هو درس “محمد علي القصاب” قرصان الكلمة، وصائغ النكتة، الذي أدرك أن الحياة دعابة سافرة وحب..
كيف لسعدي أن يلتقط فخامة مقهى السدير، ووداعة مقهى الخورنق، وأناقة مقهى “ابو سراج” التي كانت تثب للنهر كل مساء لتغتسل وتزهو كأميرة؟
كيف له أن يغني كـ “بلم أضاع الحبل بين الضفتين”.. هذا الذي جاء بغداد أنيقاً كـ “أجمل الأفندية” ليعلمها معنى أن يكون “العشق أخضر” وليسطع كأسطورة لاتنكسر بفرط الإشاعات، ولا بالدسّ الأحمق للحكايات المغرضة، فقد كان نبيلاً ككل الحلّيين، وشريفاً كبيرغ على جنبات الفارسي، وكوشم حنّاء على مقام ابن طاووس…
سعدي الحلّي لم يكن مغنياً يعبر في ذاكرتنا كالهواء، بل نشيد لطالما رافقنا في كل مكان، ولون ننتمي اليه، ووشم مدينة نقش على قميص أرواحنا، كان يجري كالعطر في وجوم حبيباتنا حين ينثني اللقاء ولا تضحك أشجار الياس في حديقة النساء، كان يصاحب قناني البيرة المخبأة في قلب النهر، كنا نلبسه في أسفارنا لندرك في تياهاتنا كيف نعود الى ذاك الجسر العجوز، وتلك السدرة الرحيمة،
الحلة سعدي الحلي وجعفوري وبلاسم وفاهم الجميلي ومجيد الفراي وطاقها موفق محمد وعبد الأمير جعفر وفاخر محمد والكواز الجميل والمعموري ناجح، وعاصمها الحلو وابن شبر محمود، وصافي الجملة علي الشلاه، ومنها تنحدر سلاسل الجمال.. من رسم كل تلك الوجوه.. أهو سعدي الحلي حقاً من وضع كل تلك الأسرار في ذاك النهر ليتلو “اريدك بالحلم خطّار .. مر بي عشك اخضر ..” لتردد المدينة ذاك الصدى ابتداء من تسجيلات (أبو عامر) في شارع المكتبات.. وانتهاء بمنامات النهر في أقاصي المدحتية.. كل تلك المسافات كانت تحيي لياليها بصوته الملبّد بالذكريات والشروق ونكهة الشاي في مقهى أبي سراج..
انه سعدي الحلّي .. ليلة الحلّة ويومها الأزلي .