تمثلات الوعي السياسي والتاريخ الملتبس في رواية (تِرتِر)

1٬268

عبد الأمير خليل مراد /

يقول جورج لوكاش: إن الرواية لا تكون تاريخية إلا إذا حملت من زمن كتابتها مشاغله الأساسية وقضاياه الراهنة.
وتأتي رواية (ترتر) للكاتب العراقي نزار عبد الستار في هذا السياق التاريخي والجغرافي للعراق، والموصل تحديداً، غير أن الرواية تشغل مساحة زمنية تبدأ من عام 1898م، أي أواخر القرن التاسع عشر، وانتهاء بالعام 1908م، وهو مطلع القرن العشرين.
إن مفردة (ترتر) لها معان معجمية كثيرة، كما أكدها المعجم الوسيط، ومنها: (ترتر): بفتح التاءين، استرخى بدنه، أو كلامه، و(تِرتِر) بكسر التاءين هي رقائق معدنية أو بلاستيكية مستديرة لامعة صغيرة ذات ألوان متعددة توشّى بها ملابس النساء. وتسعى هذه الرواية عبر عنوانها (ترتر) الى انتهاج المغايرة في صياغة الأحداث، واجتراح قضية الرواية الكلية بتحفيز الخيال الإبداعي، واستبطان الظواهر الكامنة في وجودنا وعلاقاتنا؛ فالروائي نزار عبد الستار يقول في إحدى حواراته: (إن الرواية العراقية تفتقر الى الخيال)، إذ أراد الكاتب استثمار هذا الخيال المفتوح في إسقاط التاريخ السياسي، والإمساك بلحظته المضطربة مدخلاً لكتابة هذا العمل الروائي.
وهنا، تأتي (ترتر) بمعناها الثاني، أي بكسر التاءين، إذ يريد الكاتب إعمال التأويلات والتفكير بالتقاطعات المضمرة التي يشي بها عنوان الرواية، وتهجي جدل المفارقة والالتباس المنظور، إذ يتجه سياق الروي الى تقديم السخرية والهجاء المبطن في مساءلة الزمان والمكان، وتأكيد هذا التوجه في سيرورة الكتابة، وطبيعة الأحداث الضاغطة، وامتلائها بالمفاجآت، والتنوع في منطق الحكايات القصصية.
فنحن، هنا، أمام رواية تعالج مخاضات قديمة في تكوينها، بيد أنها لم تزل مخاضات طرية وجديدة، وهي تغطي حقبة مهمة من تاريخ العالم، ومنطقة الشرق الأوسط، تلك المنطقة الملتهبة بوصفها مركزاً حضارياً وإنسانياً يتنافس عليه الأقوياء بغية تدجينه ومصادرته، أرضاً ومعتقدات ومعارف، ولا سيما الدولة العثمانية، وهي تحاول بسط نفوذها وهيمنتها السلطوية على هذه المنطقة المغلوبة على أمرها منذ مطلع القرن الثامن عشر.
إن إهداء الرواية، أو مفتتحها في المقدمة (تعظيماً لذكرى 26/آب/2016م)، وهي الذكرى اللافتة لافتتاح جسر السلطان سليم الأول حين يمر على مضيق البوسفور في تركيا، وهو أول جسر معلق في العالم يومئ الى هذه التبادلية بين هضم حقوق الآخر، واستحقاقها في ممارسة العثمانيين آنذاك، وما آلت إليه راهناً تحولاتهم الدراماتيكية من دولة تحيا على ريع الاستعمار الى دولة قوية قائمة بذاتها.
تشكلت الرواية من عشرة فصول ذات عنوانات فرعية، وفصل أخير ذي عنوان واحد، وأكثر من أربعين شخصية استغرقت مضمونها وفضاءها الحكائي، فالتشكيل القولي في الرواية يستغرق توقيعات الفصول، وسردها، وهو يجمع مسارات تلك الأحداث، وربطها بعضها ببعض، وتحويل ما فيها من بواعث ومجسات الى حبكة فنية مكتملة من البداية الى النهاية.
ولعل الرواية لا تكتفي بإسقاط الماضي كتاريخ معلن، بل تقرر إثارة الأسئلة، واختبار الوجدان الجمعي، وسلوكيات الإنسان المأزوم في قدره ومصيره، وتحرير الزمن من حتميته التقليدية، إذ يلجأ نزار عبد الستار إلى تأبيد حماستنا، ومقاومة التسليم بالأمر الواقع، وهو يدفعنا الى الانحياز الى الحرية، ومنابذة التجارب المحبطة، والتلميح الى استعادة الآمال والأحلام، ومحايثة الإنسان القوي في منطلقاته وثباته، والتطهر من رهانات العنف والخوف والقلق.
ويلتقط الكاتب كثيراً من الأمكنة بوصفها بؤرة مركزية، كباب الطوب والبصرة وبغداد والموصل وشط العرب والقشلة ودجلة وعقد النصارى، وغيرها، حيث تجري بين أخاديدها محمولات السرد الروائي. وهو يجسّر بين هذه الأمكنة، كأنها مرآة تتشظى في مساربها تمثلات الوعي السياسي عند الإنسان العراقي، والإشارة الى مأزق الآخر المفتون بسطوته، ويجاهر باستلاب حياتنا وإرادتنا، إذ نراه يقول على لسان بطلة الرواية:
(مالذي جعلك تغلقين متجرك في باريس، وتأتين إلى هنا يا مدموزيل هانز؟
-أعجبها أن تكون أعلى منه، وهي تقف على الدرجة الأولى.
– الأرباح هي وطننا يا مسيو دوبلاس .. في باريس أنا ألمانية، أما هنا فأنا عثمانية).
ويأتي هذا الاحتفاء بالمكان كمعيار استثنائي تتجلى في نبضه ومهيمناته دقائق الحياة اليومية في مدينة يثقلها الحصار من كل جانب، حيث تحضر الصورة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لأهلها، وأزقتها وحواريها، وتبدو تلك الزخارف والتشكيلات الجمالية والهندسية المعمارية للسراديب في البيوت الغافية على ضفتي دجلة ذات وظائف عملية مدروسة، وكذلك عمارة الجوامع والقباب المخروطية، والأقواس المنحنية، وهي بمثابة امتياز فني وجمالي يمنح القارئ شعوراً استاتيكياً بمعاينة مجتمع الموصل وانتماءاته الفكرية والعقائدية، واستغوار الشوارع الخلفية، وما فيها من مواضعات وأسرار.
يقول أنتوني بيرجس: “إن الروائي التاريخي في الواقع مؤرخ يتمتع بموهبة خيالية.” إن هذه المقولات وأمثالها هي عبارة عن وثائق محكومة بالزمن، وإن ارتدادها الى الماضي المثقل بالفوضى والمحرمات يفصح عن عنفوانها، وتأثيرها في نمذجة الحياة والإنسان، كي تزيح عن كاهله غشاوة القبول وارتهان المستقبل. وعليه فإن هذه التراتبية تشير الى رفض محددات الاستعمار بوصفه فاتحاً وتقدم تفسيرات وتصورات لهذا التاريخ المتخم بالحروب والانكسارات والتبريرات الجاهزة؛ فالرواية لا تريد أن تلتقي مع هذه الميوعة والانحلال والاستسلام في مواجهة الغاصبين، كما تضع مقارنات حلمية بين الأمس واليوم، وكأننا في لحظة زمنية غير مقطوعة، فالحاضر، كما يرمقه العقل الباطن، لا يختلف عن الماضي، فاسطنبول عام 1898م، هي اسطنبول زمن الاحتلال عام 1908م الى عام 1918م، وكذلك زمن احتلال الإنكليز لهذا البلد.
ويظهر من خلال قراءتنا التأويلية لهذا الرواية، أنها تنحو منحى آيديولوجياً يتبدى في تبني الموقف السياسي المشحون بالمكابدة، واختيار الشخصيات، وملامسة الأعراف، وتوظيف الرؤى المتصارعة بين الخصوم على بقعة من الأرض (الإنكليز والألمان والروس والعثمانيون) إذ نرى تسلل الشفرات الملغزة، واضطراب المصالح المتضاربة، وهي ترتكز على اشتراطات متخيلة، وتغيرات آيديولوجية تعبر عن وعي الروائي، وفلسفته في فحص الواقع الموضوعي، وأرضيته المفعمة بالأحاجي والمتناقضات.
إن التفاعل مع الموجهات الآيديولوجية، يُظهر كما لو أن الكاتب نزار عبد الستار يمنحنا إجابة مسكتة عن خطل الحاضر، وانكفائه بين سمو الإرادة، وانطفاء اليقين.
إن رمزية بعض المفردات والعنوانات التي تبنتها الرواية، ومنها ( دولة الخروف الأحمر)، وهي تحيلنا الى ماض مأساوي مريب، فدولة الخروف الأسود، ودولة الخروف الأبيض، هما من القبائل التركمانية القابعة في بلاد الأناضول، وقد استولت على بغداد عام 813هـ، وكذلك دولة الخروف الأخرى عام 890هـ أيضاً. إذ تتوسل هذه الرمزية قراءة النتوءات الفاضحة في ماضينا القريب، والإلحاح على استذكار ما فيه من فواجع وإحباطات.
والواضح، إن رواية (ترتر) تميزت باعتدادها باللغة الفصحى العالية، ومغادرة اللغة الدارجة في نمو الإيقاع الروائي، وحوارات الشخوص، فضلاً عن بسط اللغة الشعرية المدهشة، والوصف التوليدي المبهر في مفرداتها وتفاصيلها، حتى أصبحت شكلاً فنياً متماسكاً ينبئ عن عمل روائي محكم، في الرؤية والأداء.