رمضانيات!!
حسن العاني/
كيف تسربتِ المشاهد كلُّها، وأتت الشيخوخةُ بسيفها البتّار على مئةِ قضيةٍ وقضية، يالسيفِ النسيان من ظالمٍ جبّار، حتى حكايا القلبِ والدموع والحبيبات اصبحتْ متداخلة غائمة.. إنّ للعمر قوانينَ وأحكاماً تفرض سطوتها وسلطانها.. إلا تلك الكرخية الساحرة التي ارتبطتْ بالطفولة، تأبى ان تضعفَ أو يصيبها الوهن، إنّها محلة الرحمانية، وستة عقودٍ ونصف العقد من سنوات المتاعب وأعوام الجراد، وهي مسترخيةٌ في الذاكرة، نابضة بالحياة..
“رحمانية” أواخر الأربعينات لا تستحضرها الروح، لأنها حاضرة، بيوتاتٌ من الطين متلاصقةٌ وسقوف من جذوع النخيل، ولم تعرفِ المحلة يومها شيئاً إسمه الكهرباء، ولكن الناس التي جفّتْ شفاهُها وعروقها ظمأً في رمضانها الكريم، إبتدعتْ وسيلةً للتبريد لمواجهة صيف ساخن لا تأخذُه بالعباد رحمة..
إنها تعالج سطوح المنازل الترابية برشَّ مزيدٍ من المياه قبل موعد الأفطار وتقول الذاكرة بثقةٍ عالية: إن السطوحَ المتجاورة كانت على ارتفاعٍ واحد، وما يفصلُ بينها حاجز هو عن ساتر من الصفائح المعدنية المملوءة بالتراب تقوم فوق بعضها البعض على ارتفاع أقل من متر، ولكن ما شهدت المحلة يوماً شكوى جارٍ يختلس النظرَ الى جاره، ومازال المشهد قيد الايضاح!!
قبل الأفطار بدقائق، يأتي دورنا نحن الأطفال، حيث تنقل ما تيسّر من صحون (الحلاوة والمحلبي والدولمة وأنواع الأطعمة والحلويات والفاكهة) الى الجيران ذات اليمين وذات الشمال ونستقبل الأطعمة والحلوى والفاكهة من جيران اليسار واليمين، فاذا مائدة كل بيتٍ صائم، مائدة ارستقراطية و.. وأحلى ما في المشهد إن بيوت الفقراء ما كانت تطبخ في رمضان، لأن البيوت المجاورة تتسابق إليها، ولكن الأحلى الماثل في ذاكرتي، إن البيت الذي يحدنا من اليمين كان شيعياً (وائلياً)، والذي الى يسارنا كان سنياً (راوياً) –عرفت بعد الذي مضى ومضى، إن الوائلي شيعي، والراوي سني- وما مرّ يومٌ إلا وتبادل البيتان لذيذ الأطعمة.. ولكن الذي لا أحلى منه ولا أمتع، هو ما كنتُ أسرقُه وأخفيه في جيبي وأنا أنقل الصحون، وهو ما كان يفعله كذلك رفاقي المناضلون من أطفال الرحمانية، حيث كنا في اليوم الثاني نباهي بشطارتنا وحجم سرقاتنا، وأستميحكم العذرَ عن الحديثِ حول تفاصيل العقوبة التي تلقاها جسدي ذات ليلةٍ رمضانية، بعد أن إكتشفَ والدي، إنني في تلك الليلة، لا أعادها الله، سرقتُ قطعةَ بقلاوةٍ وأخفيتُها في جيب دشداشتي!!