عمقُ المعنى وجدلُ التجربة

1٬137

صباح محسن كاظم  /

في مجموعته الأخيرة (الحياة في غلطتها) نجد تجربة ثمانينية اختمرت، ونضجت، وتوهجت.. من حرائق الوطن، بين انعكاس وإيهام من واقع الانكسارات، و الخيبات بعهد الدكتاتورية، يجد من يبحر ويغوص بعمق التجربة لافتات الاحتجاج بتلك النصوص الشعرية المتقنة بحبكة مدهشة،بمعادلها الموضوعي، بكل أبعاد جماليات اللغة الشعرية بين الظاهر والباطن، تغمر المعنى المشكل بتلك المقاطع الشاعرة.. والغاطس ثلاثة أرباع المعنى، والظاهر كالفنار وسط أمواج صاخبة متلاطمة، حيواتنا الهادرة بأصوات المدافع على رؤوس شعب بأتون الحرائق من عقود خلت.
كتب “زعيم” بروح صادقة عن تلك الآلام، والمخاضات، بلغة احتجاجية تدين قبح الاستبداد، تلك القناعات الراكزة بوعيه المختلف عن أدلجة السلطة، لذا لافتاته تمثل انفعالات على مشاهدات من آثام السلطة الدموية البعثية، أرى تلك الأغلاط برؤية في مستويين، الأول
مستوى الرائي، أما الثاني فهو مستوى المرئي، هو الذي رأى كل شيء، ليعبر عن تلك الرؤيا بشعرية مدهشة، بتلك النصوص الشعرية وبحفريات بعمق المعنى، فالرمزية، والتورية، و بالظاهر، والخفاء.
لقد استخدام الشاعر المبدع “زعيم النصار” تقنيات متعددة بشعره، الوصف، السرد، الحوار، بمشاهده النثرية التي توحي دلالاتها مقدرته بصياغة المنحى النثري الخاص به بالتعبير الصوفي، والوجدان، محاولات للخروج من( تيه – وموت- وهجرة) بظل التفرد الدكتاتوري بقمع الحريات، ومصادرة الحقوق، والحروب البعثية منذ العام ١٩٨٠ حتى لحظة سقوط الدكتاتوريه.
شعرية “النصار” مستمدة خميرتها من الميثولوجيا العراقية، صدى صوت الفقراء، أنين الثكالى، تراتيل الحزن، ترانيم الابتهال، أيقونات الأسى، وهو يبحث عن الخلاص من تلك المأساة، و الجحيم، بجلجلة متكسرة بالصور عبّر عنها بتلك الأغلاط التوّاقة للخلاص من المحنة، ربما انحاز فيها للتجريد والرمزية، لكنني أجد : التماهي بين الصوفية والرمزية الشعرية، لأجل التطهير الروحي من آثام الحروب، الحروب التي فجرت دماءً غزيرة لتشكل نهراً ثالثاً في العراق.
في محاضرة للمفكر والشاعر أدونيس في الجامعة اللبنانية، أكد فيها على : (أن النثر العربي يعبر عن الهم الجمعي وليس الشخصي، نعم إن الشعر خطاب الذات للذات، لكن يعبر بدلالاته عن مأساة الوجود).
“النصار” اختار – الحياة في غلطتها- عن الخطأ الوجودي الأول وماحصل بين الإخوة من قتل. يخبئ الزمان والمكان في ثنايا تلك (الأغلاط) برؤيته الفلسفية الوجودية وحيرته في الشفرات المبثوثة بثنايا تلك النصوص، التي تحكي عن اليومي الدامي بتعبيره، عن الخطأ بالغلطة وذلك أكثر وقعاً على المتلقي بفعل الصدمة اللغوية ولعبته المحكمة بجسد النص الطويل، الذي يجسده كقطعة واحدة، مشاهد بصرية سينمائية مثقلة بالمعنى، نابضة بصرخة الاحتجاج، من صدور مكلومة من المقابر الجماعية، ورعونة الدكتاتورية.
السؤال الجوهري: هل نجح “النصار” بعكس المأساة شعرياً ليشكل لافتة تحتج على القمع البعثي في زمن المهادنة والخضوع والاستلاب وتجميل وجه الدكتاتورية، نعم، نجحت تلك الاحتجاجات بفضح القبح وعدم وضع أحمر الشفاه على فم القرد لتزويق وجه الاستبداد، فنصوصه حكايا محشوة بالأغلاط أراها حمامات سلام بيضاء تنشد الحرية بعيداً عن جرائم الطغاة.
يقول النصار في قصيدته (الحياة في غلطتها):
“إن النَسْخَة الشَبيهة لا تُخفي الحقيقي أبداً، بل إن الحقيقي هو الذي يُخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي. إن النَسْخَة الشَبيهة هي حقيقية.
حكمة توراتية منسوبة إلى الملك سليمان
حياةٌ على جانب النهر
على الأرجحِ السنوات التي مرّتْ في الطريقِ المعلّقة فوق الهاوية، كانت محشوّة بالأخطاء، لقد زهوتُ بها، ربـّما لأنها اخترعتني شاهداً عن حروبٍ لن تنتهي، عن رحلةٍ لعابرين ذهبوا لمدينةٍ ضائعة، عن معارك دينية يمقتــُها الله، عن ثورات آمنت بالخرافة، عن حكايةٍ يختلطُ فيها الواقع والخيال، العقل والجنون، الصورة والحدث.
ما هذه الغلطة؟ منذ ثلاثين سنة، تمرّ أيــّامي، تتعثـــّــر بين الصخور في الوادي. البرقُ الذي مرّ بقلبي كان عمري.
على الأرجح ستبقى حياتي مثل عجلة تدورُ، تدورُ حتى أضع حداً لها.
في الرابع عشر من تموز يكتبون حياته في حجرة المصائر ويحتفلون، يقولون: في مصادفةٍ غامضةٍ لا نظير لها، صارت له حياة، ولأطفالٍ معه هو أبٌ وأخ، ومع التي في سريرهِ ابنٌ وزوج، نام في حريرٍ مدمـّى، حياتهُ خطأٌ لشخصٍ آخرَ، يُغريهِ بآخرةٍ ويمنـّيهِ بجنـّةِ العبيدِ. العبيدُ يذكـّرونهُ برعبِ المسوخ. كيف يعبرهم والمخالب تحيطه من كلّ مكان؟ ممراتٌ تدورُ به. كيف ينساها وكلّ خطٍ في كفـّه جرح؟ جُــرْحُ البيت. حتى الحارس لم يستطع بفانوسه أن ينير الطريق، لم يفتح له قلعةً كان فيها يتلاشى، يمشي من دون وميض. من دار إلى دار. من ممرّ إلى ممرّ، أتلف أيامه، يهيمُ في دورة لا رأس لها، يبحث عن مقر أخير ليرى ما لا يرون. أتلف أيامه.
يهيمُ في هذه الطريق وفي تلك. لم يشرب زرقتها. سقط في التيه. استوحش. وبقي في انتظارٍ يسيرُ، لكنه لا يرى أحداً.
ما الذي يفعلهُ؟ ما الذي يفعلُــهُ عند عويلِ الأحفاد قربه؟ ما الذي يفعلهُ عند شدّ عينيه أمام الوشاة، أشباه الرجال؟ ما الذي يفعلهُ عند وضعهِ في حجرةٍ تحت المسدس الحرِّ؟ الموتُ جاهزٌ. ما الذي يفعلهُ عندما يسمعُ موسيقى الجنائز. ما الذي يفعله إذ تحاصرهُ الجدرانُ؟ ما الذي يفعلهُ عند مجيء الأرامل إلى رغبةٍ من قرنفل وجفاف؟ ما الذي يفعله إذ تسأله الأشجارُ عن جذور الشغف المفقود؟ ما الذي يفعلهُ حين لا تصله رسائلُ من الأسوار، من البرق أو الطريق،
هل أبقى بلا فعلٍ أُحصي الأسماء؟ بلا قيثارةٍ أهبطُ إلى الطريق أنتظرُ عاصفةً من صقورٍ تأخذُ السواقي من بداياتها، حتى لو أضيّعُ كلّ الأشياء،
أخرجُ من المدينةِ، التي كانتْ حياتها أشبه بلافتةِ حربٍ غامضة. أهيمُ. أهيمُ، أتـّبعُ قيثارةً ضائعة، أُدير ظهري للصحراء. صحراءٌ وراءَ الكلمات. أحصي أفاعيها، أهبطُ في كتبٍ خفيـّةٍ في كل طيـّةٍ منها كنت أشم رائحة الجنون الذي قاد لساني إلى دكة المذبحة”.
وهذه برأيي بانوراما ملحمية تصف ماجرى خلال أربعة عقود من الأسى بلغة شعرية نثرها “النصار” في مجموعته الأخيرة.