السرطان قد يكون الزحام سبباً والتلوث الإشعاعي المتهم الأول

896

إياد عطية الخالدي /

في آخر تسجيل لها، حصلت عليه “الشبكة”، تظهر بتول، الطالبة ذات الستة عشر عاماً وهي تتوسل لإرسالها إلى الخارج وتتحدث عن حلمها بالعودة الى المدرسة وأن تعود تمشي على قدميها اللتين نهشهما المرض وجعلها حبيسة الفراش، بعد أن فشلت مثل سواها في إيجاد العلاج في المستشفيات العراقية البائسة التي تفاقم آلام المريض بدلاً من أن تعالجها.
لم تسمع الجهات المعنية توسلات بتول لإنقاذ حياتها، لكن أهالي مدينتها الصغيرة (قضاء الرفاعي) التي ترتفع فيه نسب الإصابة بالسرطان بشكل ملحوظ هبّوا لنجدتها وجمعوا لها كلفة علاجها في المستشفيات التركية.
يقول هاتف الركابي، الذي تبرع براتبه وجمع باقي المبلغ من متبرعين في مدينته: بعد أن جمعنا المبلغ اللازم لعلاجها قررنا إرسالها الى تركيا وتوجهنا بالفعل الى مطار بغداد كي تسافر الى تركيا لإجراء العملية، إلا أن سلطات المطار لم توافق على طيرانها بحجة عدم وجود (حمالة طبية) وأرجعوها، لكننا اشترينا مايسمى”السدية الطبية” ودفعنا الرسوم الخاصة بذلك بينما كان المسؤولون في المطار والخطوط الجوية يرون كيف كانت بتول تصارع الموت، ومع هذا رفضوا سفرها على الطائرة مرة أخرى وتحت ذريعة أخرى، وهذه المرة كانت الحجة في منع سفرها عدم موافقة مدير المطار على قنينة الأوكسجين إلا بعد الحصول على الموافقات الرسمية، توسلنا كثيراً حد الذلة، وطلبنا مساعدة وزير الصحة ولكن دون جدوى، لم يرحموها ومنعوا رحمة الله والناس أيضاً لتفارق بتول الحياة وليبعث موتها رسالة عار إلى حكومة منعت شابة من تلقي حق العلاج بعد أن فشلت حكومتها بتوفيره لها وللملايين غيرها.
وسجلت ذي قار نحو أربعة آلاف إصابة بضمنها 750 إصابة العام الماضي 2018 وفقاً لدائرة صحة ذي قار، مادفع وزارة الصحة العراقية الى إرسال لجنة تقصٍّ عن الأسباب التي أدت الى ارتفاع الإصابات في المحافظة، لكن اللجنة لم تكشف عن النتائج التي توصلت إليها الى الرأي العام.
فيما يؤكد د. علي جاسب، المتحدث باسم تظاهرة أطباء العراق المطالبة بإصلاح الواقع المأساوي الصحي، أن الأطباء العراقيين يعيشون هذا الواقع البائس ويشاركون مرضاهم الألم، فماذا يفعل الطبيب في مستشفيات غير لائقة تفتقر الى أبسط العلاجات المنقذة للحياة .
ويقول الطبيب جاسب، الذي يعمل في مستشفى الحسين التعليمي، إن هذا المستشفى مثل كل المستشفيات العراقية لايمكنه توفير عشرين بالمئة من الأدوية المنقذة للحياة.
ويضطر مرضى السرطان الى شراء أدويتهم الباهظة الثمن من الصيدليات الأهلية عن طريق جهات وأشخاص متبرعين فيما تتسرب هذه الأدوية من المستشفيات الحكومية الى الصيدليات الخارجية.
ويضيف: للأسف في الغالب يلقى اللوم على الأطباء في حالات تؤدي الى وفيات المرضى ويكون سببها عدم توفر الدواء لأنهم في الواجهة.
وترفض وزارة الصحة العراقية الإقرار بارتفاع حالات الإصابة بالسرطان في العراق وتعتبره طبيعياً، وبينما تحذر من أن التدخين قد يكون سبباً رئيساً للإصابة بهذا المرض، فإنها تشكك بثبوت أدلة على أن القصف الأميركي للعراق بأسلحة تحتوي على اليورانيوم المنضَّب وعلى أن الدخان الذي يتصاعد من استخراج النفط هما سببان أساسيان لانتشار هذا المرض.
إقرار علمي
ولطالما أقر الجيش الأميركي بأن اليورانيوم المنضَّب الذي استخدم على نطاق واسع في العراق يؤدي الى أمراض خطيرة تصيب الإنسان والبيئة، لكنه يرفض أن تكون الإصابات المتزايدة بالسرطان التي يتعرض لها العراقيون كانت نتيجة اليورانيوم المنضَّب الذي استخدمه الجيش الأميركي عامي 1991 و 2003 لكن دراسة علمية قام بها فريق علمي من جامعة جاكسوفيل نفذه أستاذ الهندسة البيئة والفيزياء أكدت أن الأسلحة الأميركية تحتوي على اليورانيوم المنضَّب الذي يتسبب بأمراض خطيرة أولها السرطان.
وشخّصت جهات معنية عراقية نحو مئة وثلاثة وأربعين موقعاً ملوثاً باليورانيوم المنضَّب والأسلحة ذات الإشعاعات الملوثة كالفوسفور الأبيض، ولاسيما في مناطق الجنوب والفلوجة والمواقع التي تعرضت الى القصف الأميركي.
وحذرت منظمة الصحة العالمية مراراً من أن صحة العراقيين في خطر ناجم عن استخدام أسلحة محرّمة أهمها اليورانيوم المنضَّب.
فشل صحي
والواقع أن المصابين بالسرطان في العراق تتضاعف معاناتهم وتغدو مأساة نتيجة تردي الخدمات الصحية وشحّ الأدوية في المشافي الحكومية لعلاج الأمراض السرطانية، وهو ما يدفع أغلب المرضى إلى الاعتماد على أنفسهم في شراء الأدوية، أو السفر للعلاج بالخارج.
ويكشف تقرير صادر عن ديوان الرقابة المالية الاتحادي لعام 2017 عن تزايد معدلات الإصابة بمرض السرطان لعدم توفر المتطلبات الكافية للكشف المبكر للمرض والحد منه في المؤسسات الصحية الحكومية.
وعدَّ تقرير ديوان الرقابة المالية الاتحادي المختص أداء سياسة وزارة الصحة والبيئة في توفير المستلزمات الضرورية للكشف المبكر عن الأمراض السرطانية، من أهم المشكلات التي تواجه العراق للحد من أمراض السرطان والوفيات الناتجة عنه، هو قلة أعداد الملاكات الطبية والأجهزة المتخصصة إضافة إلى عدم امتلاك الوزارة رؤية واضحة لتحديد المتطلبات الضرورية لعلاج الأمراض السرطانية.
وتحدث التقرير عن أرقام مرعبة في نسبة الوفيات لمرضى السرطان في العراق بلغت 10% من مجموع الوفيات التي تسببها الأمراض غير السارية، كما أن الأعداد المسجلة لمرضى السرطان لدى مجلس السرطان العراقي تشير إلى تزايد عدد الحالات المسجلة لديه سنويًا.
وعلى الرغم من أن عدد المراكز التخصصية في العراق قد شهد ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة ليبلغ 24 مركزًا مختصًا بعلاج الأورام السرطانية ، إلا أن غالبية هذه المراكز ما زالت غير متوافقة مع المعايير العالمية لمراكز علاج السرطان، بسبب نقص الخبرات والتجهيزات المختبرية وأجهزة الكشف المبكر عن السرطان.
يقول الطبيب عادل بشير إن المستشفيات في بغداد، أو في المحافظات، غير قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة لمرضى السرطان إذ تفتقر المستشفيات للملاكات الطبية المؤهلة فضلاً عن نقص فادح في الأدوية والأجهزة الطبية وسوء أوضاع المشافي التي تدهورت خدماتها، ولاسيما في السنوات الخمس الأخيرة بسبب الفساد الذي تسبب بانهيار النظام الصحي في العراق.
ويضطر المئات من المرضى الى مغادرة العراق سنوياً لطلب العلاج في المستشفيات التركية والهندية واللبنانية والإيرانية .
يخافون الصحافة
وتشكك الطبيبة المسؤولة في مجلس السرطان التابع لوزارة الصحة بالأرقام التي تعلنها منظمات صحية ومستشفيات حكومية، لكنها ترفض في نفس الوقت أن تبلغ “الشبكة” بالإحصاءات الحقيقية التي تؤكد أنها موجودة بحوزتها بهدف نشرها. وعلى الرغم من كل التعهدات التي قدمت للمسؤولتين عن ضمان نقل تصريحاتهما بغية الحصول على معلومات رسمية من المجلس إلا أن المسؤولتين رفضتا بإصرار الإفصاح عن أية معلومة ووضعتا شروطاً غير مفهومة ولاتلائم العمل الصحفي وقدمن مبررات غير مقنعة لرفضهن التعاون والإجابة على أسئلة “الشبكة”.
وفي الواقع فإن وزارة الصحة العراقية لاتمتلك إحصاءات رسمية يعتد بها، فأغلب المصابين يتلقون علاجهم خارج العراق نتيجة انهيار الخدمات الصحية التابعة للوزارة وقلة الاهتمام بالمرضى الذين يعانون خلال مراجاعتهم للمستشفيات الحكومية من سوء الخدمات وعدم الاهتمام وشحّ الأدوية.
وتكشف دراسة قدمتها الدكتورة ندى عبد الصاحب العلوان، مديرة المركز الوطني الريادي لبحوث السرطان في جامعة بغداد والمدير التنفيذي للبرنامج الوطني للبحوث والكشف المبكر عن السرطان بعنوان “السرطانات الأولى في العراق و دور التشخيص المبكر في برامج السيطرة على الأمراض السرطانية” خلال مؤتمر علمي في لندن عن تزايد معدلات الإصابة بالسرطان،ولاسيما بين الأعمار الصغيرة ووجود أنواع سرطانية أكثر عدوانية وخبثاً وربما بسبب التشخيص الطبي المتأخر لها.
وحددت الدكتورة جيهان بابان، الخبيرة البيئية ورئيسة جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة خلال محاضرة بعنوان ”المواد الكيمياوية المسرطنة في الماء والهواء والتربة التي تسبب السرطانات في العراق”، وأشارت الى سبعة عوامل وراء زيادة التلوث في العراق.
وأشارت الدراسة الى التلوث النفطي في العراق الذي يؤدي الى انتشار الغازات و الجسيمات الدقيقة في الهواء والتي تضم مركبات كيمياوية متنوعة وبعضها مسبب للسرطان، ولفتت الى ارتفاع إصابات سكان البصرة بالسرطانات جراء تلوث الهواء والمياه والتربة.
التلوث الإشعاعي
ويؤكد الدكتور باسل الساعاتي خلال محاضرة ألقاها في مؤتمر علمي بلندن بعنوان “تأثير انتشار التلوث الإشعاعي في العراق” أن اليورانيوم المنضَّب و تأثير الإشعاع النووي هما السببان الرئيسان في الإصابة بسرطان الجلد والدم و التشوهات الخلقية.
ولفت الساعاتي الى التلوث الإشعاعي نتيجة حرب 1991 وقصف المفاعل النووي واستخدام قذائف اليورانيوم المنضَّب من قبل قوات الحلفاء وسرقة معدات لجنة الطاقة الذرية في التويثة ومنها براميل وخزانات ملوثة إشعاعياً.
وأشار أيضاً الى إحصائيات دولية عن وجود عدة آلاف من المواقع الملوثة بالإشعاع ونحو 10000 طن من بقايا المدرعات والناقلات التي هشمت بقذائف اليورانيوم المنضَّب.
العوالق
يشير المهندس المختص بالإدارة البيئية برهان المفتي الى سبب مهم للإصابة بالسرطان قائلا:
” يحمل الهواء في المدن المزدحمة عوالق متناهية الصغر مصدرها الانبعاثات من الحياة اليومية فيها، مثل حركة السيارات والتدفئة والتنقلات اليومية والمحركات والمكائن، و توصل الباحثون مؤخراً إلى أنّ العوالق التي يكون حجمها 2 مايكرون وأقل هي السبب الرئيس للأمراض في المدن، وخاصة أمراض الصدر والجهاز الهضمي وأمراض تلف الجهاز العصبي. ووجد الباحثون أن تلك العوالق تزداد نسبتها قرب أرصفة الشوارع وعند إشارات المرور. وعند دخولها للجسم تغير التركيبة الحيوية للخلايا وتتراكم في نهايات الأعصاب مسببة الأمراض، ويضيف: في حال تطبيق هذه النتائج على المدن العراقية، نتوصل إلى أسباب زيادة الأمراض السرطانية بعد دخول المولدات الكهربائية بين البيوت العراقية، وزيادة حالات الإنتحار الناتجة عن تصاعد الكآبة بسبب الأمراض العصبية، وزيادة التشنج بين الناس، فتلك المولّدات سيئة الصيانة وهي تطرح للجو والهواء كميات هائلة من العوالق الضارة الناتجة عن حرق وقود الديزل الذي تحتاجه محركات هذه المولّدات.
واستنادا الى المفتي فأن مثل هذه الأمور غائبة عن لجنة الصحة والبيئة في البرلمان، فلم نسمع بتشريع قانون يلزم عدم وجود المولّدات الكهربائية بين البيوت وفي المناطق السكنية، ولم نسمع بقيام وزارة الصحة بمسح ميداني يربط حالات الانتحار بزيادة المولّدات الكهربائية وانبعاثاتها وضجيجها ولا بربط حالات السرطان بالازدحام، وبقي الأطباء العراقيون ضمن القوالب الصحية القديمة بربط الأمراض بمسبباتها التقليدية مثل الفيروسات والإشعاع ونوعية الطعام. و يتساءل لماذا لا تقوم كليات الطب بدراسة ميدانية عن حالات السرطان وربطها بنوعية الديزل المستخدم في المولّدات الخاصة؟ لماذا لا تقوم كليات هندسة الميكانيك بدراسات عن تأثير الصيانة السيئة للمحركات بصحة الإنسان؟ نعم ربط الهندسة مع الصحة، لنخرج من القوالب التقليدية للدراسات والبحوث.