هكذا أنقذ الأب أنستاس ماري الكرملي منارة سوق الغزل

1٬182

حسين محمّد عجيل /

طوال قرنٍ من الزمان، اعتادت الصحف والمجلّات في العراق والعالم، أن تقدّم الاقتران البديع بين منارة سوق الغزل التاريخيّة في جامع الخلفاء، الشاهقة في سماء بغداد القديمة منذ قرون مديدة، وبين قبّة كنيسة اللاتين السامقة والمشيّدة منذ أكثر من 150 عاماً غير بعيد عنها، دلالةً على متانة الروابط الإنسانيّة وروح المواطنة الجامعة بين البغداديّين، بل العراقيّين عموماً، وتعايشهم الإيجابيّ عبر توالي العهود على اختلاف مللهم ونحلهم واعتقاداتهم.
وما كان بمستطاع الصحف والمجلّات تلك، التي انضمّت إليها لاحقاً القنواتُ الفضائيّة والمواقعُ الإلكترونيّة ثمّ منصّاتُ التواصل الاجتماعيّ، أن تُبرز لقرّائها ومشاهديها والمتفاعلين معها، هذا المثال الباذخ جمالاً، لولا مأثرة عراقيّة أبقت هذه الثنائيّة شاخصةً حتّى اليوم، سُجّلت باسم العالم اللغويّ الشهير والصحفيّ الرائد الأب أنستاس ماري الكرملي (1866-1947) الذي أنقذ منارة جامع الخلفاء من النسف بالبارود بيد قوات الاحتلال البريطانيّ سنة 1918، وهو المصير المؤسف الذي انتهت إليه بعد قرنٍ كاملٍ، شقيقتُها المنارةُ الحدباء في مدينة الموصل، بيد مسوخ تنظيم داعش الإجراميّ حين نسفوها من قاعدتها سنة 2017، قبيل تحرير الموصل وكلّ العراق من بشاعات احتلالهم.
لقد كان الأب الكرملي، الذي نستذكر هذه الأيّام مرور 72 عاماً على وفاته، فخوراً بهذه المنارة البغداديّة التي كانت ماثلةً أمام ناظريه طوال ثمانية عقود، وقد وصفها بأنّها “زينة الحاضرة ومفخرتها على تعاقب الأيّام”، ويقصد بالحاضرة مدينته الأثيرة بغداد، وذكر أنّ المنارة كانت في زمانه ذاك (عشرينيّات القرن الماضي) أعلى بناء في بغداد بارتفاعها البالغ 35 متراً، وتليها جارتها كنيسة اللاتين بارتفاع 32 متراً. وهكذا يساعد التناسبُ في العلوّ، والتجاورُ في المكان، والتماثلُ في الوظيفة، والتقاربُ في الفخامة، والتفنّنُ في الريازة، المصوّرين على استلهام المبنيين معاً في لقطات مذهلة، وسبقهم روّادٌ منهم فخلّدوها في بطاقات معايدة طالَما تبادلتها الأجيال السابقة.
ريادة وتنوير
والكرملي مثقّف رياديّ تنويريّ كبير، يعدّ محرّر أوّل مجلّة صدرت ببغداد والعراق سنة 1905، هي (زُهيرة بغداد)، ويقترن اسمه دائماً بنهضة البلاد ويقظتها الفكريّة في هذا العصر، والتعريف بها من نواحٍ معرفيّة شتّى في سلسلةٍ من مئات المقالات المعمّقة التي بدأ نشرها بغزارة منذ سنة 1886 في أبرز المجلّات والصحف العراقيّة والعربيّة والأجنبيّة، وواصل ذلك باجتهاد حتّى آخر أشهر عمره الطويل، كما يقترن اسمه بوضع أسس مناهج البحث الحديثة التي تعلمّها إبان دراسته في أوروبا موضع التطبيق في دراساته وأبحاثه وكتبه، وبالريادة في التأليف والترجمة من لغات عدّة عن تاريخ البلاد وحضارتها، وبالدعوة للحفاظ على موروثها الماديّ المتمثّل بالآثار والمباني واللقى والمخطوطات، وبدراسة الكتابات القديمة وتوثيق المخطوطات المدوّنة باللغة العربيّة وبغيرها من اللغات العراقيّة والشرقيّة، وبالتحرّي عن دوارس الآثار من العهود المختلفة، وبتكليف الأدباء والكتّاب والصحفيّين من الشباب بإجراء تحقيقات ميدانيّة عنها ونشرها مقرونة بأبحاث علميّة رصينة، وبتسجيل اللغات واللهجات العراقيّة المختلفة ودراستها علميّاً، فقد ظلّ الكرمليّ يدوّن حتّى وفاته كلَّ ما يعتقده مهمّاً من حديث العراقيّين الشفاهيّ من مختلف انتماءاتهم، ليوثّق لهجاتهم وتراثهم الشعبيّ، وتعدّى اهتمامه بغدادَ ليشمل الأطياف العراقيّة في شماليّ الوطن ووسطه وجنوبيّه.
اقترنت حياة الكرملي في كلّ مراحلها بكنيسة اللاتين، فقد ولد غير بعيد عنها سنة 1866، وهي السنة التي شُيّدت فيها، وظلّ مشدوداً إليها بوصفها سُرّةً لبغداد التي أحبّ. كانت الكنيسة مقرّاً لدير الآباء الكرمليّين الذين درس طفلاً في مدرستهم الواقعة ضمن المباني الملحقة بها، وبعد تخرّجه، وظهور نبوغه في اللغة العربيّة، اختير مدرّساً للعربيّة فيها. وحين استوى شخصيّةً ثقافيّةً ومجتمعيّةً في محيطه البغداديّ، لم يختر سواها مكاناً لحضور نخبة ذلك المجتمع المثقّفة من كلّ العراق، فضلاً عن زوّار العاصمة من العرب والأجانب، في مجلسه الأدبيّ الذي كان يقام في أحد أفنيتها كلّ يوم جمعة حتّى منتصف النهار. وفي الكنيسة أيضاً كان مقر (لغة العرب) مجلّته الأكثر شهرة في مطالع نهضة العراق الحديثة، التي ما زالت مرجعاً لا غنى عنه لدراسة الأدب والثقافة والتاريخ العراقيّ فضلا عن مباحث تعالج اللغة وتتناول الفلكلور والمخطوطات، وأخيراً دُفن عند بابها الغربيّ بعد وفاته يوم 7 كانون الثاني من سنة 1947، ليحتوي المكانُ الجسدَ في أبديّةٍ كان حريصاً على أن تكون.
الكرملي يروي قصّته مع المنارة
روى إنستاس الكرملي نفسه، باقتضاب شديد وبتواضع العالم الجليل، وقائع ما جرى من أحداث كادت تطيح بهذه المنارة، في مفتتح الجزء الأوّل من المجلّد السادس من مجلّته “لغة العرب”، الصادر في مطلع كانون الثاني 1928، وهو يمهّد لمقالة مطوّلة بعنوان “منارة سوق الغزل” كتبها الباحث الرصين يعقوب نعوم سركيس، بهذه العبارات الدّالة على تزكية وتشجيع للكاتب، واعتزاز بهذا المعلم البغداديّ: “لم يكتب أحدٌ عن منارة سوق الغزل قبل نحو ثلاثة قرون سوى الإفرنج، أمّا البغداديّون أو غيرهم من العراقيّين أو سواهم، فلم يرصدوا لها نبذةً ولا مقالاً بل لم يذكروها ذِكْراً… أمّا مسألة بانيها أو معيد بنائها فبقيت غامضةً أشدّ الغموض، وكلُّ مَن كتب عنها من الإفرنج منذ نيبهر [هو المستشرق المعروف حاليّاً بـ “نيبور”] إلى يومنا هذا، وكذلك قلْ عن كَتَبَتِنا في هذا العصر، فإنّهم جميعهم لم يتّفقوا في أقوالهم عن بانيها أو معيد بنائها. أمّا الآن وقد أخذ صديقُنا المحقّقُ البحّاثةُ يعقوب نعوم سركيس ينشد عن صاحبها في كتب التاريخ، فلم يبقَ ريبٌ في معرفة صاحب هذه المئذنة، التي هي زينة الحاضرة ومفخرتها على تعاقب الأيّام، وها نحن أولاء نزفّ هذه العروس، عروس الفكر، إلى محبّي التاريخ والتطلّع إلى الحقائق الراهنة”.
ثمّ أخذ أنستاس الكرمليُّ يشرح الملابسات التي قيّضت له التدخّل بقوّة سنة 1918، من أجل إنقاذ هذا الأثر البغداديّ العتيق، قائلاً: “لمّا احتلّ البريطانيّون بغداد، ذهب مهندسوهم إلى رؤية المئذنة وفحصوا ما حواليها، فخافوا سقوطها وإتلافها البيوتَ التي في جوارها إذا هَوَتْ، فتدفن حينئذ أصحابها تحت الردم، فعزموا على هدمها حقناً لدماء الخلق. فأوعزت السلطةُ المحتلّةُ إلى أحد الأدباء المشاهير أن يكتب مقالا يُنشر في جريدة العرب (في سنة 1918) ليهيئ الأفكار لقبول هذا الخاطر الذي أقلق أرباب السلطة المحتلّة”.
ولم يكن هذا الأديب الذي طلبت منه سلطة الاحتلال البريطانيّ تهيئة الرأي العام لقبول نسف المنارة، سوى الكرمليّ نفسه، كما سيتضح لاحقاً، الذي كان يتولّى رئاسة تحرير جريدة “العرب”.
ويواصل الكرمليُّ سرده قائلاً: “فذهب صاحبُ الجريدة المذكورة يومئذ إلى السر برسي كوكس، وأفهمه أن لا خطر على هَوْيها؛ لأنّها أصبحت كالصخرة الواحدة، وقد مضت عليها السنون وهي في تلك الحالة التي يُظن أنها خطرة وليست بها”.
أهداف برسي كوكس
لكنّ تطمينات الكرملي لم تقنع برسي كوكس، الذي أصبح فيما بعد المندوب السامي لبريطانيا في العراق قبيل تولّي فيصل الأوّل مهامّه ملكاً، ليس لأنّها غير مقنعة، ولكنّ لإصرار كوكس على هدم هذا المعلم النادر المثال والهائل الحجم بأيّة حجّة، وتجريد بغداد من أحد رموزها المعماريّة وأعلاها ارتفاعاً آنذاك، كما هي عادة المحتلّين، ويشير الكرملي إلى ذلك بوضوح وبالأدلّة، قائلاً: “فلم يقنع الحاكم المذكور بما قيل له؛ لأنه آلى على نفسه أن ينسفها بالبارود كما نُسفت مدخنة (العبّاخانة) تلك المدخنة التاريخيّة التي بنيت في نحو سنة 1869، وكانت آية في البناء والمتانة والجمال”.
لم تكن (العبّاخانة) هذه هي خسارة بغداد الوحيدة لمعالمها بسبب تداعيات الاحتلال البريطانيّ، فقد خسرت المدينةُ- المُبتلاة بالمحتلّين دائماً- فجرَ يوم الأحد 11 آذار 1917، الذي احتلّتها فيه هذه القوات، معلماً تاريخيّاً آخر مذهلاً هو باب الطلّسم، أحد أبواب سور بغداد العبّاسيّة، الذي كان جيش الاحتلال العثمانيّ يستخدمه مستودعاً للأسلحة والبارود، فنسفه قبل انسحابه كي لا تستفيد منه القوّات البريطانيّة، ولم تبق منه الآن سوى أسسٍ مدفونةٍ، وصورةٍ نادرةٍ توثّق جماله الأخّاذ وروعة عمارته.
كان بإمكان الكرملي، أن يكتفي بمسعاه هذا، لو لم يكن ينتمي بوجدانه كلّه لعراقه، ولمدينته التي وضع لها أوّل تاريخ في العصر الحديث، ولحضارةِ بلادٍ ظلّ يدافع عنها وعن لغتها العربيّة بقلبه ولسانه ويده التي دوّن فيها لأجل ذلك عشرات الآلاف من الصفحات.
فليرَ الذين في قلوبهم مرضُ التعصّب والكراهيّة والتطرّف، وأولئك الذين يريدون أن يحرقوا العراق بتجريده من تعدديّته التي أغنت تاريخه كلّه، ماذا فعل ذلك الراهب المسيحيّ الجليل كي يُنقذ أثراً إسلاميّاً قديماً، يقع بإزاء كنيسته، وليتمعّنوا في كلماته وهو يسرد باقتضاب تحرّكاته العاجلة: “فلمّا رأى مديرُ الصحيفة المذكورة أنّ صاحب الزِّمام لا يرجع عن عزمه، أسرع فأخبر بالأمر المرحوم السيّد محمود شكري الآلوسي، ليذهب ويقنع برسي كوكس بأن يعدل عن تحقيق ما دار في خلده”.
راهبٌ وشيخٌ يدافعان عن منارة
والسيّد محمود شكري الآلوسي هو من بين كبار رجال الدين في بغداد، وله مؤلّفات لغويّة وتاريخيّة بارزة، أهمّها كتابه “بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب”، الحائز على جائزة ملك السويد ووسامه الذهبيّ سنة 1889، وله ولأسرته مكانة علميّة كبيرة فيها، فهو حفيد الشيخ أبي الثناء الآلوسي صاحب التفسير الشهير “روح المعاني”. وتربط الآلوسي الحفيد بالكرملي صلة صداقة حميمة، فالكرملي كان يعدّه أستاذه في اللغة، وبينهما مراسلات أدبيّة ولغويّة مطوّلة، تجاوزت خمسمئة رسالة، حقّقها ونشرها تلميذا الكرملي، الأخوان الباحثان كوركيس عوّاد وميخائيل عوّاد، ببيروت سنة 1987.
وفي المقطع التالي الذي يتكلّل فيه مسعى الكرملي بالنجاح، يضطرّ للكشف عن شخصيّته بتواضع جمّ، فيقول: “فذهب الآلوسي مع مدير جريدة العرب- وهو صاحب هذا المقال- وحملا الحاكمَ على أن يترك هذه المسألة الآن إلى وقت آخر، إلّم يُرِد أن يعدل عن رأيه، فقنع”.
بكلّ هذا الاختصار البالغ والاختزال الشديد، ينهي الكرمليّ سرد المفصل الأبرز والأساسيّ في تلك الواقعة، التي كان يمكن أن تفقد بغداد جرّاءها معلمها التاريخيّ البارز لولا حكمة الكرملي وذكاؤه وشجاعته، وإصراره على عدم التفريط بإرث مدينته العمرانيّ.
وبعد كلّ ما فعل، لم يترك مصير المنارة للأقدار، فها هو يروي تطوّرات أخرى تنمّ عن تتبّع دقيق للموضوع، فيقول: “وبعد سنتين كُلِّف مهندس البلديّة، وهو المسيو شافانيس الفرنسيّ، بأن يقوّي كرسيّ المئذنة بما عنده من الوسائل، ففعل”.
مأثرة ودرس للأجيال
إنّها مأثرة تستحقّ أن تسجّلها للكرملي، أجيالُ بلاده بفخر، ولا سيما شابّات العراق وشبابه المحتشدين سلميّاً اليوم في ساحة التحرير وميادين أغلب مدنه لأجل استعادة الوطن، وتستعين بها درساً حضاريّاً بليغاً في نسج مستقبله، وترميم ذاكرة بعض مَن نسوا، تحت طائلة ما جرى عليهم من محن، إرثَ أجدادهم وتقاليدَ صاغوها ورسّختها القرون، في التسامح والتعايش ومدّ جسور الألفة بينهم إخوةً متحابّين، برغم تنوّع الأديان وتباين المذاهب واختلاف الأعراق. لقد استعاض هذا البعضُ عن إرثه الجليل بنبت سامٍّ، حاول غرسَه في فترات من تاريخ البلاد الطويل، مستعمرون وعابرون وطارئون، كان من بين ثماره الكارثيّة: فظاعات موجة الكراهيّة والتطرّف والعنف والتصفية الجسديّة، التي أجّجها الاحتلال الأميركيّ البغيض بعد سقوط حقبة الاستبداد سنة 2003، بيد عصابات الجريمة المنظّمة، وذيول العواصم ومرتزقتها، وجماعات الاحتراب الطائفيّ بأحزابه وتنظيماته ومليشياته المجنّدة داخليّاً والمدعومة خارجيّاً، التي وصلت ذورتها سنة 2014 بمجازر تنظيم (داعش) الإرهابيّ المروّعة المرتكبة بحقّ العراقيّين جميعاً، وبانتهاكاته غير المسبوقة، من إبادة جماعيّة للرجال وسبي للنساء والأطفال، التي هزّت وجدان العالم كلّه، وامتدّ الإجرام الموغل في بشاعته لهذا التنظيم باستهدافه كذلك، وتدميره وتحطيمه بحقدٍ هائل، كلَّ ما ورثه العراقيّون من نفائس تراث أجدادهم في تاريخهم القديم والإسلاميّ والمعاصر، وختمَ مسوخُ التنظيم جرائمهم في هذا المجال بنسفهم سنة 2017 الجامع النوريّ، تحفة الموصل المعماريّة، بمنارته الحدباء التاريخيّة الرشيقة التي تعود إلى القرن السادس الهجريّ.
ريادة استخدام صورة المنارة والكنيسة
وبعد أن ينهي الكرملي رواية قصّته مع منارة سوق الغزل سنة 1918، يعود إلى زمنه (وهو مطلع شهر كانون الثاني سنة 1928) ليختتم تقديمه لمقالة يعقوب نعوم سركيس بهذه العبارة المؤثّرة، التي أنْسَنَ فيها المنارة العظيمة: “وهي اليوم قائمة على ساقها كما كانت سابقا، وتضحك من كلّ مَن حاول أن ينظر إليها نظَرَهُ إلى شيخةٍ متغضّنة”.
ولعل الكرمليّ نفسه، هو على الأرجح، أوّل مَن فكّر باستخدام صورة للمنارة وقبّة الكنيسة معاً، دلالةً على التآخي الروحيّ والوحدة المجتمعيّة بين أبناء الوطن الواحد، فقد نشر في ختام تقديمه للمقالة صورةً تجمعهما، وكتب تحتها هذا التعليق الشارح: “منارة جامع سوق الغزل وفي جانبها على يدك اليسرى قبّة كنيسة اللاتين”. وتظهر المنارة من الزاوية التي التُقطت فيها الصورة، على جانب عظيم من العلوّ والضخامة لكونها الأقرب إلى المصوّر، حتّى أنّها تكاد تغطي المشهد كلّه، وتبدو فعلاً وكأنّها تتحدّى الزمان، وتضحك من طارئين على أديمها، حاولوا نسفها بزعم أنّها شاخت وتوشك على السقوط.
نذور إسلاميّة في كنيسة خالية
لقد دخلت منارة سوق الغزل التاريخيّة في القرن التاسع من عمرها المديد، بعدما واجهت أعاصير المغول، وأهوال الزمان، وفيضانات دجلة، وضربات المنجنيقات، ونجت من الهزّات الأرضيّة، ومخطّطات نسفها بالبارود، وقصف المدافع والهاونات، وتداعيات الانقلابات والحروب، والصواريخ العابرة للقارّات، والقنابل الذكيّة لطائرات الـ B2، وعمليّات التدمير المنظّم للآثار العراقيّة… ومن يراها واقفةً بهذا الشموخ البغداديّ العجيب، عليه أن يفخر بعظمة بنّائيها من أجداده، ويتعلّم منهم دروساً في حرفيّة العمل واتقان الصنعة، كي تتمكّن البلاد من أن تقدّم للبشريّة دورةً حضارية جديدة، كما فعلت مراراً، وعليه أيضاً أن يفخر بوقفة الكرملي تلك التي حمت المنارة من الفناء، ويتعلّم منه دروساً في المحبّة الخالصة للوطن واستنفار المجهود في خدمته كي يستعيد رقيّه.
واليوم، وبعد مرور قرنٍ على هذه الواقعة، تبدو النسوةُ البغداديّاتُ المسلماتُ اللواتي يتردّدن حاليّاً على الكنيسة الخالية، التي أُخرجت من الخدمة بعد انتقال دير الآباء الكرمليّين منذ عقود إلى موقع جديد في الكرّادة الشرقيّة، وكأنّهنّ يَرْدُدْنَ شيئاً من الدَّيْن لذاك الراهب الجليل، وهنّ يوقدن شموع نذورهنّ فيها للسيّدة العذراء، وعلى مسافة أمتار منهنّ، يرقد راعي الكنيسة القديم، الأب أنستاس ماري الكرملي، في قبر أوصى ألّا يكون إلّا فيها.