جواد الزيدي: الفن لغة عالمية وإدانة للحروب
خضير الزيدي /
من جهد إلى آخر ومن جهة إلى أخرى يتواصل إبداعياً مثلما يتواصل في إنسانيته، ومسعاه هو خلق الجمال سواء في اللوحة أو الدراسات التي تهتم بالشأن الفني والجمالي، ذلك هو الفنان والناقد جواد الزيدي الذي ما انفك يتواصل مع كل ما هو جديد في الساحة الفنية العراقية.
التقته مجلة الشبكة العراقية في هذا الحوار للتعرف على جماليات المنجز الفني للمشهد العراقي والتشكيلي منه خاصّة.
* كيف تقرأ آفاق عالم التشكيل والجمالية التي تكتنف العمل؟
-كنت احتكم إلى الفطرة أو الحسية في التعامل مع اللوحة الفنية وإطلاق أحكامي الجمالية عليها، ولكن الآن أصبح لديَّ منهج نقدي يمكن محاكمة الأعمال به، ليس بالضرورة أن يكون منهجاً خاصّاً بي بل هو آلية للاحتكام أو للقياس وتبقى مسألة التيار الفني الذي أنشِئت عليه اللوحة هي المحرك الأساس في القراءة النقدية، إذ إنَّ أغلب الأعمال الآن تقع في خانة الحداثة وأكثرها تجليا هي المدرسة التجريدية أو المدرسة التعبيرية بعدها. والفن الحديث له آفاقه الخاصّة المتّصلة بحركة الفكر والمتغيرات الكبرى على الصعد المختلفة التي تمس حياة الإنسان ولكن هذا الفن عبر تياراته المتتابعة أصبحت لديه مساراته المختلفة التي اختزلت قروناً من حركة الرسم أو النحت على السواء.
* ما المقومات الجمالية التي ترتكز عليها الصورة الحسيّة للعمل الفني بنظرك؟
-الصورة الحسيّة تقترن بما هو حسي أيضا، وهذا ينطبق على الأعمال التي تعتمد الوجدان والدواخل الشعورية في التعبير عن صيغها الفنية وتمتلك جماليتها الخاصّة، وقد بقي الإدراك الحسي ملازماً للأعمال الفنية منذ سومر مرورا باليونان وعصر النهضة، وأصبحت القطيعة واضحة في الفن الحديث إذ بدأت الأعمال تعتمد مقولات فلسفية تقترب من الانا المتعالية، ومقولات الزمن السيال أو الديمومة الخالصة لدى برجسون أو تأثيرات الحدس لديه مع كروتشه، تلك الأفكار التي أغنت اللوحة الحديثة بشكل واضح بعد إنجازها للشكل العياني أو المجرد وأدارت وجهها للمعنى المباشر الذي يشترك فيه الجميع، ولكن قيمة الحدس في العمل الفني تنصهر فيها صيغتان للمقوّم الجمالي، أولاهما الطاقة التأويلية الكامنة في العمل ذاته والأخرى التلقي الجمالي المباشر عبر السطح التصويري العياني وبهذا تجتمع في اللوحة الحديثة مقوّمات الشكل والمضمون.
*هل يمكن لعالم التشكيل أن يكون بديلا لعالم الرواية والشعر؟
– التشكيل إجناسية مختلفة عن عالم الشعر والرواية، على الرغم من وجود عوامل شراكة أو تداخل إجناسي بينهما، فكثيراً ما تكون الصورة الشعرية مقترنة بالرسم وكذا في ما يخصّ الرواية، الا أن الأدب يعتمد النص المكتوب والمقروء، إذ تكون رسالته اتصالية تدوينية بالدرجة الأساس، ولكن اللوحة أو المنحوتة تمثّل نصّا بصريا منفتحا على مقولات الحياة اذا ما عرفنا أن التعدُّد الإجناسي وتنوُّع الخطاب الإبداعي لا يمكن أن يلغي التفرد الأحادي وتميزه وأن الحياة قائمة على هذا التنوُّع الذي تتداخل فيه الحقول المختلفة لإنتاج أو صياغة انموذج الحياة. يقترب الإبداع بهذا النموذج من حيث الرقي أو الانحطاط، فالشعوب المتحضرة بالتأكيد ستخلق أدبا وفنا متقدّما مثلما حدث في السياق التاريخي، ولذا لا يمكن أن يكون جنسا فنيا بديلاً عن جنس آخر فني أو أدبي، فلكل منهما طرائق في التعبيرعن الحياة التي تتجلّى في هذا الانموذج أو ذاك.
*في عصر العولمة كيف للفن أن يعطي دلالاته الجمالية والإنسانية؟
الفن خطاب روحي ووجداني كما الشعر، وديمومته ترتبط بديمومة الإنسان الحالم والمفكّر ووجوده الفعلي، الفن يدين كما أدانت الدادائية ويلات الحرب العالمية الأولى، وكما أدانت فنون ما بعد الحداثة الحرب العالمية الثانية وأخلاقيات المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي واستطاعت أن تُحوَّل اليومي المعيش إلى فن جمالي، وأدانت لوحة بيكاسو (الجورنيكا) الحرب الأهلية الاسبانية، وقد اكتسبت هذه الأعمال خلودها في ضوء رفضها لما يحدث وما يصيب الإنسان الأعزل، وبهذا أصبحت تحتوي على قدر كبير من الدلالة الجمالية والإنسانية أولاً؛ لأنَّها مشروع بناء إنسان جديد ورفض مشروع قيمي أخلاقي فاسد ضمن منظومة الوعي الجمعي. أما في ما يخصّ عصر العولمة فأعتقد أن الفن لغة عالمية قبل السياسة والاقتصاد، فيتصل جواد سليم بالفنان السومري والواسطي ويتعلّم من بيكاسو أو هنري مور وغيرهم وتتلاقح طروحات شاكر حسن آل سعيد مع كاند نسكي، وموندريان مع مفاهيم الحلاج وابن عربي.. إنَّ لغة الفن تبقى اللغة الأولى التي تكافح من أجل التوحيد ضمن مشروع العالم الواحد المتكامل على الرغم من آليات الهدم المضاد الذي يتعرَّض له مشروع كهذا.
*هل يمكن أن تصف الأعمال الفنية بأنها ذات قيم أخلاقية؟
-إنَّ الفن بمجمله ينطوي على قيم أخلاقية ولا يمكن أن يتعداها؛ شأنه في ذلك شأن الدين والفلسفة، هذه الثلاثية الأخلاقية التي تسهم في صياغة الخطاب القيمي للإنسان على مرّ العصور وقد ارتبط الفن بالدين أزماناً طوالاً منذ حضارات العراق القديم وفنون عصر النهضة وصولا إلى فن الحداثة الذي تجاوز التبعية، ولكنّه أسهم في صياغة خطابه الأخلاقي والجمالي المختلف. هذا من جانب، كما أنّ الفن وإن كان منتمياً لمشروع سياسي أو ايديولوجي لكنَّه لا يخرج عن خطاب الجمال، وإن كان تحريضياً فهو نهج يصب في خدمة الإنسان وإشارته إلى مكامن الخلل في حياته. لم نرَ أو نسمع يوماً عن فنان شارك في التعبئة من أجل القمع أو الاضطهاد الفكري. الفنان كائن مفكّر وحالم ضمن حركة التاريخ وسيرورته الواقعية، له حلمه الجميل في تجاوز ما هو كائن بالتأكيد.