رسالة إلى صديقي في شارع مريدي
عواد ناصر/
مشتاق لك، يا صديقي، منذ أن تعرفت عليك لأننا لم نكمل حواراتنا، كما يجب. يعني لم نواصلها أيضاً. عتبك علي في “فيسبوك” حقيقي، وفي محلّه. أتخيلك أمامي بسالفيك السبعينيين وبنطلونك التشارلستون وعطرك الرخيص، من نوع “ياردلي”.
قلت لي إنك مررت بدارنا، في قطاع ٤٦ وطرقت الباب ولم تجدني.
أقول لك: أنا نسيت رقم الدار لكنني لم أنس الدار.
قلت لي، أيها الصعلوك الشركاوي: توقعتك في الدار نفسها برغم أنك هاجرت منذ سنوات.
أعرف أنك ذو خيال خصب، على نحو ما، لكنني لم أتوقع تهلوس على هذا النحو.
صدّقني، تقول، هذا ما خطر لي وأنا أقرأ نصاً لك، كتبته في الشام عن رحلة عودتك إلى بغداد، في الثمانينات. كنت تتجول بيننا بلغتك الجديدة التي شابتها لغة منفى خليطة بين اللبنانية والسورية، وكنت مثيراً للسخرية. حتى أنني خفت عليك: أن يلقوا عليك القبض في أية لحظة. هنا في بغداد. يا سخيف، شجابك؟. برغم أنني سعيد بانطباعك الغريب عما كتبت، لأنني أقنعتك بأكذوبتي الشعرية بأنني في بغداد، بينما ما كتبته لم يكن أكثر من كابوس شائع يعرفه المغتربون والمنفيون. وما فعلته لم يكن أكثر من إعادة انتاج هذا الكابوس، وحياتك، مع قليل من المونتاج أيها الصعلوك الشركاوي الجميل الذي أحبه جداً.
أكتب لك، اليوم، هذه الرسالة، وأنا في أعمق إحساسي بخيبة الأمل. خيبة الأمل ليست جديدة طبعاً. نحن أبناء وطن يتألف من خيبات أمل متكررة. حتى المخمّس الذهبي: الكتب والكتابة والمرأة والأصدقاء والنبيذ خيبة أمل كاملة. لا أريد أن تصيبك عدوى خيبة أملي. أعتذر منك ومن قرّاء هذا العمود الصغير. أنا أقيم في جنة عاصمتها لندن. غير أنني أحب شارع مريدي، أحب مدينة الثورة، عاصمة أخرى للجنة، بكل جحيمها. لا تتحذلق لترد علي: إنها النستالوجيا أو الهومسك.
مللت، يا صديقي الشركاوي الصعلوك، من العيش في وطن افتراضي مثل الفيسبوك. الوطن ابن كلب والمنفى ابن عاهرة. عذرا، لأنني أشتم. إنهما صديقاي، الوطن والمنفى، والصداقة حريّة. لذا قلت ما قلت. أمس، مثلاً، تمشيت على ضفة نهر التيمس الشهير، فلم أجد تلك الزوارق الفقيرة التي تنقل العابرين بين الكرخ والرصافة، بل وجدت زوارق ضخمة تمتلئ بما لذ وطاب من مأكل ومشرب ونساء ورجال كلهم لطفاء وأريحيون حتى أن بعضهم دعاني إلى طاولته. هل تعرف، يا صديقي الشركاوي الصعلوك، بم أحسست؟. أحسست بمزيد من خيبة الأمل. أحسست، معهم، بأن أكون مترجماً لذاكرتي اللغوية. أحسست بأنني طارئ على جنة دخلتها عن طريق الخطأ. كنت معهم على الطاولة نفسها بينما أتحاور معك. مع شارع مريدي. مع الطفل الذي يختنق أمام عدسة المصور الشمسي ليسجله أهله بالمدرسة. أحسست بخيبة أمل مركبة تمتد بين عاصمتين شهيرتين: لندن ومدينة الثورة.
أعرف أنك ستقول إنني أعيش في الماضي. كلا، يا صديقي الشركاوي الجميل الذي أحبه، أنا أعيش في الزمن كله. ألم ترني أنني أعيش حاضري وماضيي؟ المستقبل؟ لا أعرف، وحياتك، سوى أن المستقبل حلم من أحلام عدة. حلم مرشح لخيبة أمل متوقعة.
النساء؟ سهلات جداً مثل شراء علبة كوكا كولا، لكن الحب صعب جداً. الأصدقاء؟ لا أصدقاء لدي. لأنهم قديسون، كلهم، وأنا الخطّاء الوحيد. ما الذي تبقى؟ الكتب والكتابة والمرأة والنبيذ من المخمّس الذهبي؟ خيبات أمل أستبدل بها خيبات أمل.