الباحث د. علي طاهر الحمود: العراق لم يبنِ دولة كي يبحث عن أمة
#خليك_بالبيت
د.علاء حميد /
يذهب ضيفنا في هذا الحوار إلى أنَّ هناك نوعاً من الصدمة في ما يجري لمعاني الهوية العراقية منذ التغيير ولغاية اليوم، بحسب ما قام به د.علي من بحوث ودراسات حول الهوية والدولة والأمة في العراق، إذ يخلص إلى أنَّنا أمام تحدٍ مختلف في تاريخ العراق الاجتماعي، ملامح هذا التحدي التحوّل الجيلي داخل المجتمع العراقي، تغيُّر القيم والمعايير الاجتماعية منذ العام 2003، ولهذا نحاوره في هذه المجالات.
أزمة في تبدل الهوية
• هل ترى أنَّ هناك أزمة حاصلة في الهوية العراقية بعد تغيير النظام السياسي؟
– التغيير التلقائي، والتغيير العمدي، والتبدل الظرفي، كلّها من سمات الهوية، لا يمكن بالأساس تخيُّل هوية ساكنة. الهوية لا معنى لها من دون وجود الآخر. وما دام الآخر متبدلاً ومتغيّراً ستكون الهوية كذلك أيضا. أنا لا أعرف أناي من دون وجودك. وبما أنَّ المجتمع العراقي مرّ بتحولات كبيرة طيلة المدة الماضية، فمن الطبيعي أن يواجه أزمات في تبدل الهوية. لدينا آراء متنوّعة بين الباحثين في السوسيولوجيا السياسية بشأن أولوية الدولة على الأمة في صناعة الهوية أو العكس. بمعنى هل أنّ الدولة هي التي تصنع الأمة، أم الأمة تتكفّل ببناء الدولة. كان رأي الراحل الدكتور فالح عبد الجبار يميل إلى أنّ العراق دولة تبحث عن أمة. وكنت في حواراتي معه أشدّد على أنّ العراق لم يبن دولة كي يبحث عن أمة. فالدولة وفقا لما أفهمها تتألف من أربعة أركان رئيسة (الأرض، والشعب، والسيادة، ومؤسسات الحكم بسلطاتها الثلاث). وبالحقيقة طيلة التاريخ الذي أعقب تأسيس الدولة العراقية واجهنا مشكلات في هذه الأركان الأربعة. فما زالت هناك خلافات حدودية بيننا وبين الجيران، وما زالت هناك قطاعات من الشعب تفضل عدم التواجد ضمن العراق الموحّد، وهناك فترات في التاريخ العراقي لم يشعر بها الشعب بالسيادة للدولة، وكذلك مؤسسات الحكم في العراق منذ بدايات القرن العشرين لم تكن على أسس راسخة من التقاليد البيروقراطية العقلانية تؤسّس لتراكم واستقرار؛ أساسه الشفافية أمام المستفيدين من أبناء الشعب. فبقيت تلك المؤسسات رهينة الصراعات ذات الطابع الهوياتي، سواء كان ذلك معلنا ومكشوفا مثل مرحلة ما بعد 2003، أو خفيا كما في مرحلة ما قبلها.
ضرورة التغييرات البنيوية
• بماذا تصف هذه الأزمة هل هي اجتماعية أو ثقافية؟
– لا يمكن تصور ثقافة من دون بناء اجتماعي. فالبناء الاجتماعي المشكّل للعلاقات بين الافراد وبين الافراد والمؤسسات، وأيضا تلك التي تؤسّس لتبادلات اقتصادية، كل ذلك يشكّل ثقافة المجتمع. فلا ثقافة من دون تلك العلاقات والتبادلات. الثقافة هي تعبير وتعريف تقدمه المجتمعات للإنسان الكامل. فإذا ما سعى شخص أو جماعة إلى تجاوز هذه المعايير الثقافية، سيكون حينئذ إنسانا أو جماعة منقوصة الأهلية، ومنبوذة من السياق الثقافي والاجتماعي معا. وإذا ما تصورنا المشكلة الموجودة في العراق ثقافية، فينبغي أن نبحث عن جذورها في البناء الاجتماعي. نسمع مثلا عن قضايا مثل التطرف، أو العنف الأسري، أو الطقوسية الدينية وإلى آخره من القضايا. لا يمكن حلّ هذه الأمور من خلال إجراءات أمنية، ولا عن طريق الموعظة الحسنة في المساجد والحسينيات. فالمشكلة ليست في الأفراد، بل بالبناء الاجتماعي المحيط بهم. الحل حينئذ هو في إجراء تغييرات بنيوية في البناء الاجتماعي، من خلال التنمية الشاملة. لا يمكن تصور نشوء ثقافة من منطقة شرق القناة سوى تلك الثقافة التي نشاهدها يوميا. وإذا أردنا تغييرها فينبغي حينئذ أن نهدم الدور السكنية الصغيرة والضيقة في هذه المنطقة، ونوسّع الشوارع، ونؤسّس لجامعات أجنبية أهلية، ونهتم بالمناطق الخضراء المفتوحة لغرض الترفيه. بهذه البرامج التنموية يمكن أن نأمل تبدل العلاقات بين الناس، وبالنتيجة تبدل البناء الاجتماعي، ومن ثم تبدل النمط الثقافي لدى الناس.
مجتمع المخاطرة
*هل نحن نشهد قيام نظام اجتماعي يختلف عمّا اعتاد عليه العراقيون، أم هذا كله يقع في أنّ المجتمع العراقي من المجتمعات المأزومة التي تمرّ بشكل شبه مستمر بحالة المخاطرة التي تحدّث عنها عالم الاجتماع اولريش بيك في كتابه “مجتمع المخاطرة”؟
– المجتمع العراقي لا يختلف عن باقي المجتمعات من حيث التنوع والمخاطرة التي يعيشها في عالم اليوم. بل يمكن القول إنّ المجتمع العراقي ونظرا لتاريخه الثقافي والاجتماعي الطويل والعميق، يمتلك مرونة وقابلية على التكيف لا تتوفر في كثير من مجتمعات البشرية. لكنّ الحديث عن أنّ الأزمة بنيوية في داخل المجتمع العراقي أظن أنَّه قولٌ مبالغٌ فيه. بالطبع هناك من يميل إلى أنّ الانقسام الطائفي مثلا، أو العنف، أو الاختلاف القومي، هي أزمات أصيلة، ولا يمكن الفكاك منها في المجتمع العراقي. لكن بالنظر لتأريخ كل الحوادث ذات الطبيعة الطائفية أو القومية أو العنيفة في العراق، يمكن تلمس تلك المشكلات الحقيقية في (إدارة التنوع) وليس (وجود التنوع). بغداد كانت تتحدّث بأكثر من 45 لغة يوما من الأيام، لماذا تتضايق من التنوع القومي والطائفي؟! هذا التضايق لا وجود له بالحقيقة الا في أذهان من يظنون خطأ بأن عدم التنوع يحمل لهم سلاما أكبر. أصحاب مثل هذه الطريقة في التفكير البسيطة ينبغي أن يدركوا أنّنا إذا ما فشلنا في إدارة التنوع الديني والمذهبي والقومي، سنفشل أيضا في إدارة تنوعات أخرى مثل المتدين غير المتدين، العامل والغني، المتعلم وغير المتعلم، صاحب الأسواق الصغيرة والأسواق الكبيرة، وهلم جرا. التنوع جزء أصيل من ثقافة الشعوب، والأزمة هي أزمة إدارة هذا التنوع وليس اعترافاً بالتنوع. ومن المفارقات أنّنا نعيش أزمات تجاوزها الزمن طويلا. ففي الوقت الذي يفكّر به الأوروبيون بتعزيز وحدتهم ضمن الاتحاد الأوروبي، نحن ما زلنا نبحث عن سيادة الدولة وفاعلية الحكومة، وفي الوقت الذي يتحدّث به اولريش بك في كتابه مجتمع المخاطرة عن زيادة الحس بالخطر المحدث جراء زيادة التقدم العلمي والتكنولوجي، يبدو أنّنا نعيش أخطار عدم فاعلية المؤسسات الحكومية وأيضا مراكز الثقل الاجتماعية في حماية الناس من الأخطار الأمنية والاقتصادية.
العالم وابن خلدون
• كيف تقيِّم قدرة أقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية على رصد حالة المخاطرة التي تنتجها أزمة المجتمع العراقي؟
– بشكل عام العلوم الاجتماعية متأخرة كثيراً عن رصد التحولات الاجتماعية والأزمات التي يعيشها المجتمع. المشكلة تعود بدرجة أساس إلى عدم أهلية الكثير من الباحثين في فهم وقراءة المشهد، وبدرجة ثانية عدم اهتمام المؤسسات بالنتاجات الفكرية لأقسام العلوم الاجتماعية.
• هل تعتقد أننا ما زلنا واقعين تحت تأثير طروحات الدكتور علي الوردي عن المجتمع العراقي، أم أنَّنا بحاجة إلى مراجعتها؟
– العالم ما زال يعتمد نظرية ابن خلدون في تفسير جزء من الظواهر الإنسانية في المنطقة التي نعيشها. وهذا ليس عيبا، بل تأصيل نظري نحن بأمس الحاجة اليه. نعم بالنسبة للراحل علي الوردي هو ما يزال مهيمناً على عرش التفسير النظري للظواهر العراقية، وإلى الآن لم تجر سوى محاولات شفاهية خجولة أو كتابية غير مهمة استهدفت نقد التراث النظري للوردي. نحن بحاجة إلى فهم أعمق للوردي، كي تكون نظريته ملائمة لمستجدات الظواهر في عراق اليوم.
منهجية التفسير والتحليل
• كيف تنظر إلى توجهات الدراسات الاجتماعية التي تهتم بالمجتمع العراقي سواء من الداخل أو من الخارج لباحثين أجانب مثل توبي دوج أو تشارلز تريب؟
– لا يمكن لأي باحث غريب عن المجتمع العراقي فهم السياقات الثقافية والاجتماعية، والمعنى الذي تنتجه الظواهر المختلفة. فترى مثلا أنّ التعقيد الذي يكتنف الظواهر العراقية يجبر باحثين أجانب على قدرة عالية في النظرية والمنهج، أن ينساقوا لتفسيرات مبسّطة وساذجة تلائم التفكير الغربي. ففي القضية الطائفية يفهم الغربي السياق الطائفي على غرار ما يفهمه من خلاف وصراع بين البروتستانت والكاثوليك في غابر الأيام. لكن السياق الطائفي في العراق هو جزء من التنوع وليس سياق صراع. ولذلك دوما تنتهي الدراسات الغربية إلى نتائج تصور الواقع العراقي جحيما لا يطاق، وهذا الامر لا يمكن مواجهته بالحقيقة الا من خلال دراسات عراقية على قدرة عالية في النفاذ في المؤسسات الاكاديمية الغربية، بمعنى قدرة نظرية ومنهجية في التفسير والتحليل.
النسخة الألكترونية من العدد 363
“أون لآين -6-”