كُتـّاب وأدباء لمجلة (الشبكة): كورونا غيّرت وجهة نظرنا للحياة!

794

#خليك_بالبيت

استطلاع أجراه: علي السومري /

لا يختلف اثنان على أن أبرز ما منحته جائحة كورونا للمثقف العراقي هو الوقت، بعد اضطراره للرضوخ لحجر صحي إجباري من قبل الحكومة، وقت أتاح له التفكير طويلاً بمشروعه الثقافي وما أنجزه فيه، إضافة إلى النظر بعمق إلى معنى الحياة التي باتت فريسة سهلة لهذا الوباء اللعين.
ولمعرفة كيف استثمر الأدباء والكتـّاب هذا الحجر وما أنجزوه فيه، استطلعت مجلة الشبكة آراء عدد منهم في محاولة لتسليط الضوء على هذه المشاريع الثقافية التي حجبتها عتمة الحجر وتوقف النشاطات الثقافية!
إجازة إجبارية
الكاتب والباحث والروائي محمد غازي الأخرس قال: الحقيقة أنّ وباء كورونا له أضرار وفوائد، ومن فوائده أنّه اضطرني للبقاء في المنزل طوال أشهر عدّة، كانت بالأحرى إجازة إجبارية بقدر ما هي مزعجة لكنّها مفيدة، نعم، هذا الفيروس الكريه منحني وقتاً رائعاً لإنجاز كتب عدّة والشروع في رواية جديدة على وشك إنهائها فضلاً عن إكمال أطروحة الدكتوراه.
وبيّن الأخرس أنّه أنهى أربعة كتب، اثنان منها أكملهما من الصفر أثناء الأشهر الماضية، في حين أن الكتابين الآخرين كان قد أنجز منهما في وقت سابق – قبل كورونا – ما نسبته سبعون بالمئة.
طقوس معتادة
وعن كيفية قضاء أيامه زمن كورونا، طوال الأشهر الماضية، أوضح (الأخرس) بأنّه كان يقضي أيامه وفق منهاج ثابت: الاستيقاظ في الضحى والاستمتاع بالقراءة التقليدية لمدة ساعتين، أو البحث في مصادري ووثائقي وتصوير ما أحتاج منها لبحوثي. بعد ذلك، أتفرغ للعائلة طوال الظهر ثم آخذ قيلولتي البسيطة قبل أن أنهي نهاري بممارسة رياضة المشي نصف ساعة في الشوارع القريبة.
مضيفاً بأنّه لم يتنازل عن طقوسه المعتادة، كالجلوس في الحديقة، وتناول العشاء مع العائلة، ثم متابعة مسلسل أو فيلم، يلي ذلك وقت عمله الجدي، الذي يستغرق منه ثلاث ساعات، ويكون مخصّصاً بالكامل للكتابة، يبدأ من الحادية عشرة مساءً حتى الثانية فجراً أو أكثر أحياناً.
تجربة العزلة
أما الكاتب والقاص كاظم الجماسي فتحدث قائلاً: لكل شيء أو تجربة أو علاقة، في الحياة وجهان، عند قياس الضرر أو النفع، وأيضاً، أكثر من وجه، بمقاييس أُخر، وقديما قيل “رب ضارة نافعة” ولعل تجربة الحجر (الكوروني) فيما يخصني، كان لها نفع عظيم، فقد كرست وأنضجت تجربة العزلة التي كنت أعيشها قبل شيوع وباء كورونا، بسبب مرضي المزمن (سرطان البنكرياس)، منذ أواخر العام 2014، الأمر الذي دفعني أولا لتشذيب أطراف علاقتي مع العالم، أمكنة وأشخاصاً، ثم الدخول في امتحان المكاشفة مع الذات.. استرجاع شريط حياتي وتأشير مواطن الخلل والصواب في محطاتها. مضيفاً أن ما زاد من سعادته، هو قراءة كثير مما حلم بقراءته من الكتب، ومشاهدته لكثير مما حلم بمشاهدته من الأفلام، واستماعه لكثير من الموسيقى، مما لم يستمع إليه قبلا، وكتابة قليل مما ودّ كتابته بنفس راضية مطمئنة.
رغبة الكتابة
في حين قال الروائي سعد سعيد: الحقيقة هي أنّ هذا الحجر قد وفّر وقتاً كثيراً للجميع، ولكن المشكلة في المشاريع الثقافية هي أنّها لا تحتاج إلى الوقت فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى الرغبة بالكتابة وصفاء الذهن والمزاج المطلوب وهو ما لم يتوفر مع كل التوتر الذي شعرنا به جميعاً، والحيرة التي انتابتنا ونحن نواجه ظرفاً غير متوقّع بالمرة. ويردف قائلاً: ومع ذلك لا يمكنني أن أنكر بأن هذا الوضع قد ساعدني على وضع اللمسات النهائية لروايتي الأخيرة، ولم تأخذ مني أكثر من أسبوعين من الفائض الذي توفر لي فجأة. أما البقية فقد استفدت منه في استكمال معظم القراءات المؤجلة منذ سنوات وهذا مصداق للقول، “رب ضارة نافعة”.
رهبةٌ وأمل
“كورونا حدث غير مسبوق للبشرية عامة، وخارج إطار المفكّر فيه، لذلك لم تكن للمجتمعات خبرة التعامل معه والتعاطي مع تداعياته النفسية والاجتماعية والمهنية، أما عني فقد كنت في بداية الأزمة مدفوعاً بنوعين من المشاعر تجاهه؛ مشاعر رهبة وحذر، ومشاعر الأمل بوجود علاج أو حل طبي له”؛ بهذه المقدمة ابتدأ الكاتب قيس حسن حديثه معنا، مضيفاً: إن الأمل والخوف يجران الإنسان نحو سلوك خاص، فبين أن أحاول الحذر والنجاة وبين أن أكمل مشروع كتاب أعمل فيه منذ سنة، بهذا الفلك كانت تدور يومياتي، الأمر أشبه بشيء غير معقول علينا أن نجازف بمواجهته دون أن نخسر مسارنا اليومي. مشيراً إلى أنّه حاول كغيره بأن تكون حياته طبيعية، بمعنى أن يجعل من تداعيات هذا الوباء النفسية في أقل مستوى، إذ إنّه وبخلاف ذلك ربما يزداد القلق والتوتر لديه بأكثر مما هو متوقع، مبيـّناً أنّه كتب بعض الصفحات في كتابه الجديد، وأكمل ترتيب ما يريد تدوينه كرؤوس أقلام، ولكن شدّة الأزمة وخطورتها، وسعة انتشار الإصابات أثرت في الجانب النفسي لديه، وعلى مراحل إنجاز الكتاب”.
انتصار الحياة
أما عن نظرتهم للحياة ومعناها بعد انتشار وباء كورونا، الذي أودى بحياة كثير من العراقيين، وهل تمكّن من تغيير نظرتهم وتصوراتهم عنها؟ قال الباحث والكاتب والروائي محمد غازي الأخرس: “نعم، تغيّرت نظرتي للحياة تغيُّراً جذرياً، صارت الحياة أكثر أهمية والوقت أصبح يقاس بالذهب، اكتشفت أن الحياة يمكن أن تغادرنا بسهولة وبساطة ودون تعقيدات، مجرد عطاس قد يكون بداية الذهاب في قاطرة اللاعودة كما حدث لكثير من محبينا، مضيفاً: بيني وبينكم، شعرت في البداية بأن كل شيء عبث، وما من ضمان يمكن لقوة أن تقدمه لنا.
كانت موجات الموت التي اجتاحت حياتنا مرعبة حقا، لهذا انتابتني مشاعر متضاربة من اللاجدوى، تركت كل شيء وأثَّر الجو العام على مزاجي، لكن بعد مرور فترة قصيرة، تبدلت نظرتي واعتدل مزاجي وقلت لنفسي: لا بدّ للحياة أن تنتصر، ثم عدت إلى نفسي.
(الأخرس) أشار إلى أن شيئاً آخر مهماً تبدّل في أفكاره، وهو اكتشافه لمدى هشاشة الحياة المادية التي نلهث وراءها، فالإنسان برأيه عرضة للزوال في أية لحظة، وهو بالرغم من قوته الظاهرية ليس أكثر من ورقة تتلاعب بها ريح الطبيعة وعواصفها، مبيـّناً أنّ هذا الوباء كشف لنا أيضاً مدى وهمية شبكة التقاليد والعادات الاجتماعية التي تأسرنا. إذ “اختفت المآتم مثلا ولم تتوقف الحياة. لم نعد نعانق بعضنا بعضاً ولكن الحياة استمرت بشكل طبيعي!” سائلاً في ختام حديثه: “هل كنا نتخيّل ذلك يوما ما؟”
منسوب الشجاعة
أما الكاتب والقاص كاظم الجماسي فقال: مجابهة الموت، كما هو الأمر مع” كورونا” أشد الأخطار فتكا بالحياة، وما يزيده فتكا أنّه ينخر رئتيك من دون أن تملك ما تصدّه به عنك، يخبرك هذا الوباء بصلف ليس من مثيل له: أتحداك .. أتستطيع العبور إلى الضفة الأخرى؟ مضيفاً: ينصح نيتشه (النبي) في كتابه (المقدس) هكذا تكلّم زرادشت: أن ضع نفسك في خطر فكل خطر يستثير فينا بنسبة ما نملك من شجاعة وقوة للمضي إلى الأمام. وأظن أن لكورونا، على الرغم من تكبيده إيانا خسائر مؤلمة جداً، فضيلة اختبار منسوب الشجاعة فينا .. لمن قبل التحدي واحتاز في النهاية لذة أن يعيش.
صورةٌ جديدة
الروائي سعد سعيد تحدّث عن هذه التجربة المريرة قائلاً: “أعتقد بأنّه من الصعب جداً أن أدّعي بأن نظرتي إلى الحياة التي كوّنتها اعتمادا على تجارب عقود من الحياة، يمكن أن تتغير نتيجة لهزة واحدة مهما كانت، لأنّ هذا الأمر إن حدث فإنّه سيعني مدى هشاشة بنائي الفكري وافتقاري إلى المرونة التي تجعلني مهيّأ للتعامل مع مفاجآت الحياة وتقلباتها غير المتوقعة”، مضيفاً: ولكن مع ذلك يمكننا اعتبار هذه الجائحة زلزالاً ضرب أسس أفكارنا النظرية التي كنا نحملها سابقاً، ولكن لا ليقلبها رأساً على عقب، وإنما فقط ليجعلنا أكثر حذراً في التعامل والتوقع مع غير المنظور في التغيرات الحياتية المرتبطة لا سيما بالسياسة الدولية وألاعيبها، وأن حياتنا لن تتغير تماماً بعد انزياح هذه الغمة، وقال سعيد إنه على يقين من أنها ستبدو بشكل مغاير نوعا ما، أي إن الصورة القديمة قد انتهت، ولا بد لنا من التهيؤ للتعامل مع الصورة الجديدة، التي قد لا تكون أكثر سوءاً بحسبه، ولكنها ستكون مختلفة بكل تأكيد.
درسٌ بليغ
في حين أوضح الكاتب قيس حسن أنّه يعيش الترقب مما يمكن أن تسفر عنه هذه الأزمة، مشيراً إلى أنها كلما طال أمدها فإنها ستزداد عسراً وقسوة وليس العكس كما يشاع أحيانا، وأن الفايروس غيَّر وسيغيّر مسار الأمم والسياسات وكل ما يتعلق بحياة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وهو درس بليغ وقاس، جعلنا نعيد حساباتنا في الكثير من الأشياء.
يبدو في نهاية المطاف أنّ الحياة بتفاصيلها الشائكة ما بعد كورونا، لن تكون كالحياة قبلها، وهو ما يتفق عليه أغلب المثقفين العراقيين، نمط جديد بتصورات مختلفة، طرق حياة جديدة وحذرة، ومحاولات جادّة للتشبث بالجمال والاستمتاع بما تبقى من سنوات لحيواتٍ تناهبتها حروب عبثية وحصار خانق وأوبئة فتاكة!