التشابيه دراما عفوية تحكي واقعة الطف
#خليك_بالبيت
محسن إبراهيم /
مذ كنت صغيراً كان انشدادي للإمام الحسين يثير في نفسي السؤال، كيف كان ليل عاشوراء يأخذني بعيداً على جناح الحزن في صوت أمي؟ فاتسلَّق غيمة عشق ويتحد في حنجرتي الصمت.
أقف عاجزاً أمام قيثارة الألم السومري وهي تعزف وجع كربلاء، ألملم حبات العرق والدمع في مواكب المعزين، فيرتسم على مقلتي رثاء أجدادي، وصرخة الحسين ترضعني الانتماء. كلما أكملت الارض دورتها أعادتني لمغازلة الجرح عاريا أمام الحسين.
الطعنات في جسدك يا حسين كانت طريقاً للعاشقين. فتحت باب القلب وقالت ادخلوا آمنين.. أيقنت حينها أنَّ كربلاء جبل عشق وقبلة للثائرين. مذ كنت صغيراً وأنا كل صبيحة عاشوراء أحاول أن أجد لي مكاناً بين المتجمهرين لحضور (التشابيه الحسينية)، أحلّق بعيدا في سماء الطف مع صليل السيوف وصوت حوافر الخيل في مشهد مسرحي لم استوعبه صغيراً، وحين تعلّمت أن أفهم الحسين أيقنت حينها أن التشابيه هي دراما مسرحية حسينية تنتقل عبر الزمن لتحكي واقعة الطف وتلامس جرح كربلاء.
مسرح فطري
لم تكن التشابيه الحسينية وليدة زمن قريب بل هي ضاربة في القدم ويعد مسرح التشابيه مسرحاً عراقياً حسينياً بامتياز، يتناول معركة الطف الخالدة والمظلومية التي تعرّض لها الإمام الحسين عبر قرون من الزمن، فن تراجيدي فطري يحاول مجموعة من الناس تجسيد الواقعة التاريخية من خلال هذا الفن، رغم أنَّهم لم يدرسوا فن التمثيل وتقنيات المسرح، ولكنّهم بفطرتهم العفوية يحاولون أن يقدموا تراجيديا الطف بإمكانيات بسيطة من خلال ساحة العرض التي غالبا ما تكون ساحة ترابية يتجمهر حولها المشاهدون. وملابس بسيطة يحاولون من خلال ألونها أن يميّزوا بين معسكر الإمام الحسين الذي غالبا ما يرتدي الممثلون به ملابس بيضاء أو خضراء وبين معسكر الأعداء الذي يتميّز لباسهم بالألوان الحمراء والمزركشة وعلى امتداد غالبة المدن العراقية يمارس هذا الطقس في شهر محرم الحرام لا سيما في اليوم العاشر، ولكل مدينة طقوس خاصة في أداء التشابيه, في مدينة كربلاء تقام التشابيه بطريقة مختلفة إذ يجوب الممثلون (جيش الحسين) و(جيش يزيد) الشوارع التي تغصّ بالمتفرجين في مثل هذا اليوم، تتعالى الصيحات والتكبير ممزوجة بالبكاء والدعاء على قتلة الحسين، أما في باقي المدن الأخرى فتأخذ التشابيه منحى مسرحياً يحاول القائمون على هذا الطقس أن يقربوا إلى المتفرجين واقعة الطف بصورة عفوية، فيقع الاختيار على شخصيات معينة تؤدي أدوار تلك المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، ولكل شخصية مقطع خطابي يناسب دورها في واقعة الطف.
وكغيرها من الشعائر الحسينية تعرّضت التشابيه للمحاربة والمنع ولو أتيح لهذه الشعيرة أن تتم وسط أجواء فيها هامش من الحرية لشاهدنا اليوم مسرحاً حسينياً يتمتع بكل تفاصيل العرض المسرحي وتقنياته.
غياب مسرح التعزية
الفنان الدكتور مناضل داود يذكر في كتابه مسرح التعزية في العراق قائلا: لا تكمن أهمية طقوس التعزية في العراق كونها طقوساً دينية تراجيدية يتم اللطم والنواح فيها على شخصية الحسين بن علي (ع) فحسب، بل إنّها كانت ستسهم في تطوير وبناء مسيرة المسرح العراقي لو أن الظروف الموضوعية لهذا الفن كانت تسير بشكل سوي، مثلما قدّمت الطقوس اليونانية الأساس القويم لبناء المسرح الإغريقي (إن الإيمان والزهد التامين في تقديم طقوس البكاء، كان لهما الدور الحاسم في عملية سير وتكوين المسرح اليوناني). إننا نتحدّث عن تراجيديا الحياة في الجسد، وهي ليست جسداً فردياً، وإنما الكل في حركة واحدة متوحدة متنوعة ومتناسقة، لا أحد يملك أن يجزم أن هذه الطقوس تمارس لسبب ديني فقط، بل سيبكي الشيعة ما دام الحسين (ع) حسب اعتقادهم سيكون شفيعهم يوم القيامة، وسيصرخون في وجه السياسي السلطوي الذي لم يقوَ على احتمالهم. والجدير بالذكر أنّ هذه الطقوس منعت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي في العراق وهكذا أسّس الشيعة من خلال هذه الطقوس الفضاء الرحب لفرجة مسرحية تراجيدية، هذا المسرح الطقسي الذي كان (أرتو) يبحث عنه (وكروتوفسكي) في مسرحه الفقير وأخيراً يذهب (بيتر بروك) إلى قرية إيرانية ليقول بعدها، شاهدت في قرية إيرانية نائية شيئاً من أقوى الأشياء التي شاهدتها في المسرح في أيما وقت مضى (مجموعة من 400 قروي يجلسون تحت شجرة ينتقلون من هدير الضحكات إلى النحيب العلني، رغم أنّهم يعرفون تماماً نهاية القصة، فقد شاهدوا الحسين (ع) سابقاً وهو يتعرّض لخطر القتل، وكيف كان يناور أعداءه، واستشهاده بعدئذ، وعندما يموت الحسين (ع) يغدو شكل المسرح حقيقياً). ولكن السؤال الأهم هنا: أين هي التعزية في المسرح العراقي وهو وريث هذه التراجيديا التي تمت على أرضه؟ سؤال بحاجة الى جواب منذ استشهاد الحسين (ع) إلى يومنا هذا.