عام دراسي جديد

842

حسن العاني /

سواء قامت حرب (البسوس) أم اية حرب اخرى، وسواء داهمتنا مصيبة (الكوليرا) أم جائحة (كورونا) فلا بد أن تبدأ رحلة التعليم بأية وسيلة مع ما نصطلح على تسميته بالعام الدراسي الجديد، وأحلى ما في العام الدراسي هو الذي ترسمه عصافير الجنة وحقائبها الملونة وملابسها الجديدة وخوفها السري والمعلن وهي في اطريق إلى المدرسة برفقة أُم أو أب أو شقيق أو أحد يُعتمد عليه…
إنها تجربة اليوم الاول من حياة الطفل- وهي أقسى تجاربه الحياتية- مع صوت الجرس والفرصة والسبورة والرحلة والطباشير والكتاب والقلم وسلطة المعلم والقيام والجلوس والأنظمة الصارمة التي تهون أمامها أعتى الأنظمة الدكتاتورية، كل ذلك وبصورة مفاجئة على حساب الفوضى واللعب والهرج والمرج والأنفلات الأمني والعبث الطفولي والنوم إلى وقت الضحى…
هو كذلك، على هذا النحو تماماً كان يومي الاول وأنا أتوجه إلى مدرسة (الفتوة) في مدينة الكاظمية قبل سبعين سنة أو يزيد، والمدير يرفض قبولي لأنني دون السن القانوني للقبول، لو لا تدخل (وسيط) أثير على قلب المدير، قال له: إن هذا الولد- يقصدني- قد ختم القرآن ويعرف أسماء الحروف ويستطيع كتابة الارقام من الواحد إلى المئة (على ما علق في ذاكرتي فأن “الواسطة” في أثناء الحديث عن مواهبي الخرافية أخبر المدير بأن الطفل الماثل أمامه ينتظره مستقبل عظيم، ومن المؤكد سيحصل على الوظيفة كذا أو كذا، وذكر جملة من الوظائف الراقية جداً.. ليس بينها وظيفة صحفي)!!
من باب الأطمئنان أراد الرجل الأفندي الأنيق أن يتأكد من صحة المعلومات التي أدلى بها صديقه، وهل هذا الولد الصغير عمراً وبنيةً الذي يقف أمامه بجسد يرتعد، يمكن أن يكون حقاً (فلتة زمانه) ويتحدث عنه سكان البادية والحضر، أم إنه بالون من بالونات الأصدقاء، ولذلك سألني عن آية كريمة كانت معلقة على الجدار، إن كنتُ قادراً على قراءتها، فقرأتها بسرعة وإقتدار أثار إعجابه (كان يجهل إن تلك الآية الكريمة نفسها معلقة على أحد جدران منزلنا، وطالما إختبر بها والدي – بحضوري- أشقائي الأكبر سناً)، طلب مني الأقتراب من منضدته، ووضع أمامي ورقة، ثم أخرج من جيبه (قلم حبر) وقال لي اكتب (87)، وحين تلكأت سألنيإن كنتُ أجهل كتابة هذا الرقم فأجبته بأنني أعرف كتابته، ورسمت (87) بأصبعي فوق زجاج المنضدة، ولكنني لا أعرف كيف يكتبون بهذا القلم فهذه أول مرة أراه، وضحك الرجل بسرور، وإلتفت الى (الواسطة) طالباً من أن تتولى أسرتي (تكبير) عمري في الجنسية على وجه السرعة،ثن أرسلني بصحبة (الفراش) إلى ساحة المدرسة، حيث صادف أن تكون حصتي الأولى في الفتوة درس رياضة!!
كان التلاميذ قد سبقوني إلى الدوام بأسبوعين تقريباً، لأن قضية (عمري) كانت مشكلة حقيقة… واعتادوا على معظم التفاصيل المدرسية وتقاليدها، إلا أنا، وكانت الساحة واسعة ومحاطة بأشجار عملاقة، والتلاميذ يرتدون الزي الرياضي، وأنا (الأفندي) الوحيد بينهم، كانوا موزعين على أربعة خطوط، وقد وقفت في نهاية الخط الأول وحقيبتي الفارغة معلقة في رقبتي، سمعت المعلم يخاطبنا( نحن الآن في غابة يتجول فيها أسد شرير، أنا أراه وانتم لا ترونه، وسوف يهاجمنا على غفلة، وعلينا أن نتسلق الأشجار بسرعة، طبعاً كل واحد منكم عنده حبل طويل، وعندما أقول: وصل الأسد.. إرموا الحبل إلى أعالي الأشجار وتسلقوا، ومن يتأخر سيأكله الأسد) ومع إنني لم أرَ أي حبل، ولكن المعلم لا يكذب، وفيما أردت إخباره إنني لا أمتلك حبلاً، صاح فجأة بأعلى صوته (جاء الأسد) فأذا التلاميذ يرمون حبالهم الوهمية ويتسلقون كما تهيأ لي بسرعة جنونية… أنا في نهاية الخط.. يعني الأقرب إلى أنياب الأسد.. في لحظات الرعب تلك توقفتْ دورتي الدموية بعد أن إنطلقتْ من أعماقي عيطة عفوية مدوية… سارع المعلم وإحتضنني بين ذراعيه وأفهمني إن هذه مجرد لعبة رياضية، ولم يتركني إلا بعد أن إطمأن على حالتي الصحية والنفسية.. ومنذ ذلك اليوم المشؤوم إلى يومنا المبارك هذا، وأنا أمقت الأسد القاتل، وألعن أباه وأمه وأكره ذريته ومن يحبه!!