المخطوطات الأدبية وأسرار الكتابة الإبداعية

867

ورود الموسوي /

“الكتابة تُعيد الكتابة”.. بهذه العبارة يبدأ أساتذة الكتابة الإبداعية محاضراتهم وهم يوجهون النصح للكتّاب الجدد، أو الكتّاب الغارقين في عالم التسويف، بالاطلاع على نتاج العظماء ممن خلّدوا أسماءهم كأوسكار وايلد، أو فرجينيا وولف، أو تشارلز ديكنز، أو فيتزجيرالد، وصولاً إلى مارسيل بروست. أكانت رواياتهم منذ اللحظة الأولى بهذا الشكل الذي وصلنا؟ أم اُعيدت “كتابتها أثناء كتابتها” مراتٍ عدة حتى انتهى بها الحال إلى ما هي عليه اليوم؟
فما الذي تخبئه المخطوطات الأولى لرواياتهم التي ما زالت حتى اليوم تتربع على قمة الأعمال الكلاسيكية المهمة؟ وكيف الوصول إلى هذه النسخ النادرة والثمينة؟ وما الذي ستقوله النسخة الأولى لمخطوطة (البحث عن الزمن الضائع) لبروست مثلاً وهو يشطب بطريقة حرة كثيراً من الأسطر ويضع تعليقاته وتصويباته عليها، ما جعله يطوّر النص بشكل محكم ليولد بسبعة مجلدات!
يقول الشاعر الإنكليزي فيليب لاركن “إن للمخطوطات قيمة أدبية سحرية تحمل بين طياتها معانيَ كثيرة يمكننا، نحن الكتّاب، الإفادة منها والتعلّم ونحن نرى كل مخطوطةٍ تحمل أسلوب كاتبها, الطريقة التي يكتب بها, والخطوط الدرامية التي يتبعها ببناء الشخصيات.”
ولعلّ السحر الحقيقي الذي يكمن في أعماق المخطوطات الأدبية أنها ظلت متوهّجة بما تحمله من فكرة أولى، وإثارةٍ أولى، وتوّجّس أول، ودفقةٍ كتابية أولى. ويمكن أن نضيف إليها أن المخطوطة الأدبية هي الجزء الأشد خصوصية للكاتب، وهي النسخة الخفية والسرية التي لا يمكن لأحد الاطلاع عليها، ومن هنا تستمد سحرها وغموضها وإثارتها للقارئ أو المهتم بعالم المخطوطات، فهي تشكل البهجة العميقة والخفية للدخول إلى العالم الخاص جداً لأي كاتب مهم. فنحن أمام لحظة زمنية فارقة في عمر الكتابة الإبداعية ولحظة فارقة في تطور الفكرة ونضجها، وهي تتمثّلُ أمامنا على شكل ورقةٍ كانت بين يدي الكاتب الفلاني، وأن الفكرة التي كانت تتراقص بين أصابعه ها هي حيّة وما زالت فتيّة وطازجة كما تركها على الورق.
تقول جيسيكا نيلسون، المؤسس المشارك لدار الطباعة والنشر (أس بي/ باريس ٢٠١٢): “في سياق عالمٍ تتزايد فيه رقمنة كل شيء، عملنا على إنشاء دار تُعنى بنشر المخطوطات الأصلية من خلال طباعتها نسخة طبق الأصل بعدد محدود جداً وحسب الطلب، وذلك لاستعادة سحر الكتابة كوسيلة فعّالة بين الأديب أو الفنان وعمله، فنحن نؤمن بأهمية أن يتمكن قارئ اليوم من الاتصال مباشرة بالمؤلف والتعمق مباشرة في مخطوطاته، ووجدنا أنه من المدهش حقاً أن تواكب كاتبك المفضّل وهو يعيش صراعاً مع الشخصية التي يخلقها ويحاول تطويرها، وأحياناً يغيّر مصيرها بالكامل, ففرجيينا وولف على سبيل المثال كانت تهيئ السيدة دالاوي للموت بقتل البطلة التي تحمل الاسم ذاته، لكن عوضاً عن ذلك غيّرت وولف النهاية بأن جعلت (سيبتيموس سميث) يقفز وينتحر. وتضيف جيسيكا أنه من المدهش حقاً أن تقلّب بدفتر الملاحظات لترى بكل وضوح رؤية فيرجيينا وولف وهي تطور شخصية (سميث) لتحدد له مصيره وتضيف ببعض المزاح: الحصول على هذا النوع من التواصل الحيّ مع كاتبٍ ما ليس مجاناً بلا شك فهذه المخطوطات لها ثمنها بالطبع.”
السحر والمعنى
يذكرنا الشاعر فيليب لاركن بسحرية المعنى لدى الكتّاب فيقول: كتبت فرجيينا وولف روايتها بالحبر البنفسجي، بينما دوّنت ملاحظاتها أو هوامشها بخط أزرق وأضافت تفاصيل كثيرة، فقد اختارت لأسرارها اللون الأزرق وكتبت ما يشبه المذكرات على لسان البطلة فقالت: “تأتيني فكرة لذيذة بأنّي سأكتب أي شيء أريد كتابته.” كما أنها تعلن في أعلى الصفحة الأولى أنها تعيش تناقضاً شديداً بين قدرتها على الكتابة وبين الشكوك الذاتية التي تزعجها في الوقت نفسه. هذا ما دونته في مذكراتها في اليوم الذي وصلت فيه إلى الصفحة رقم 100 من مسودة روايتها: “قد يكون كل شيء قاسياً جداً، ولامعاً جداً، لكنه بلا طعم.” مع ذلك، استمرت في الكتابة والمراجعة والتنقيح حتى غيّرت وجهة نظرها “وجهة نظر البطلة” بجعلها أكثر حياةً بعد أقل من عام وذلك عام 1924 بقولها: “ها أنا ذي الآن – أخيراً في الحفلة.. الآن أعتقد أن هذا قد يكون أفضل ما في نهايتي.” وقد نُشرت الرواية عام 1925.
تقول الكاتبة المتخصصة بفن الرواية دوروثي باركر، صاحبة كتاب (فن الرواية): “كنت أكتب القصة القصيرة ثلاث مرات على الأقل؛ المرة الأولى لفهمها، والمرة الثانية لتحسين السرد، والثالثة لإجبارها على قول ما لم تَقله.”
هذا كله يدل على أن الكتابة تعيدُ الكتابة بشكل أكثر وضوحاً وتشذيباً وجمالاً.
المخطوطة والديجتل
مما لا شك فيه أن المخطوطات الأدبية الكلاسيكية نجحت باستعادة اللحظة الزمنية للكاتب والرواية على حد سواء، وأعادت بريق الزمن المفقود حتى بعد فقدانه، لكن كيف سيكون شكل المخطوطات في عالم يلهثُ نحو التكنلوجيا والديجتال حتى صار القلم غريباً على الأصابع والورقة ليس لها وجود في عالم الكتابة اليوم، بل إن الكتابة تحولت إلى ضغط على أزرار الكيبورد، والورقة تحولت إلى ملفات بيضاء تحمل أسماء (وورد, بيجز, نوتس) وكلها يتم تخزينها في غيمة افتراضية تحافظ على أعمالنا الإبداعية، وهذه الغيمة تأخذ أشكالاً وأسماء عدة حسب نوع الحاسوب الذي يستخدمه الكاتب..!
هل سيحمل ملف الوورد ذات الخصائص الورقية والعبق والسحر والمعنى الذي كان للمخطوطة؟ وكيف سيكون شكل مخطوطاتنا الديجتالية؟ بل هل يمكن لأحدٍ الاطلاع على نسخة المسودة الأولى لأي روائي اليوم؟ هل سيحتفظ حقاً الكتّاب بنسخ أولى عن نسخهم الصادرة؟
وحده الزمن من يملك جواباً على هذه الأسئلة، فلربما ستأتي أساليب كتابية جديدة تتحول فيه أسرارنا الرقمية إلى مخطوطات نادرة تستحق البحث عنها من قبل الجيل التقدمي القادم.