هل نحرق غاباتنا من أجل المسكوف!؟

581

حسن جوان – تصوير: يوسف مهدي /

تنتظم الغابات والمساحات الخضر ضمن تصنيف الثروات الطبيعية في جميع البلدان، وتحظى بحماية قانونية وتشريعات تمنع القطع الجائر والإتلاف المتعمَّد لهذه الثروات، وقد تُخصص -كما في العراق- شرطة خاصة مسؤولة عن حماية الغابات مزوّدة بسلطة قانونية وبنود جزائية صارمة، في الوقت الذي نلحظ عمليات استهلاك مفرط غير مسبوق باستخدام الخشب المقطوع من أجل شواء السمك المسكوف الذي نشهده بكثافة في الشوارع والأرصفة، فضلاً عن أشكال أخرى لا تقل استهلاكاً لأصناف أخرى مصنّعة من أجل مطاعم الشاورما على الفحم والنارجيلة بأصناف أغلى ثمناً وأندر مصدراً.
فهل نقف اليوم على عتبات تنذر بخطر وشيك من شأنه تهديد ديمومة غاباتنا الوطنية التي تعرضت غير مرة لأعمال الحرب والتخريب المتعمد والتجريف الذي أفقد المدن أسوارها الطبيعية؟ عن هذا الموضوع وحيثياته ومخاطره القائمة رصدنا مظاهر في بغداد، وزرنا بعض الأماكن التي تعدّ مصادر رئيسة لتسويق الخشب، وبدأت خطوتنا بالحديث مع السيد (براق غفوري) صاحب (سكلّة حطب) في منطقة العطيفية فأجاب على أسئلتنا بهذا الخصوص موضحاً:
إن مجمل الخشب المعروض في السوق هو خشب عراقي يتنوع بين الصفصاف والكالبتوس والمشمش والتوت للشوي، والتفاح والنارنج للنراكيل، ومصادر زراعتها هما محافظتا واسط وصلاح الدين وبعض أطراف بغداد. ولا توجد فكرة استيراد حالية، اللهم إلا بعض المحاولات المحدودة سابقاً لكنها لم تنجح نظراً لجودة الخشب العراقي، وارتفاع كلف الإنتاج والنقل للمستورد. أما عن طريقة الحصول عليه فلا توجد، ضمن علمي، مهنة محددة بقطع الخشب أو الحطابة، بل هناك (كواصيص) من بساتينهم الممتدة على مساحات شاسعة في سهول واسط والدبوني أو في سهول صلاح الدين حيث ينقلون أطناناً من الجذوع إلى بغداد، ونقوم نحن في (السكلّة) بتقطيعها حسب طلب السوق، ولا يوجد قطع للأشجار من الشوارع، بل من البساتين الخاصة فقط، على أن يكون ذلك من الأشجار المريضة أو الميتة أو غير المثمرة، حيث تتكدس بين فترة وأخرى فيبيعها الفلاحون لنا.
كل شيء حطب ونار!
عن نوعية الحطب المستهلك بحسب نوع الشجرة يقول براق: من حيث الاستعمال في هذا الوقت لا فرق بين نوع وآخر، فكله حطب قابل للاشتعال بالكفاءة نفسها. وكما نعرف فإن أغلب الطلب عليه يأتي من المطاعم وأصحاب السمك المسكوف. ما يفرق الآن هو انفتاح السوق وعدم وجود شركة للصناعات الخشبية الحكومية كما في السابق حين كانت الأبواب والغرف والمقاعد والارائك تصنّع بكميات كبيرة قبل أن يتحول الخشب إلى نار وحطب، فضلاً عن وجود معامل خشب خاصة كثيرة آنذاك قبل أن يدخل المستورد. إن تاريخ مهنتنا في بغداد يعود إلى مئات السنين وقد توارثناها عن أجدادنا وكانت بداياتنا في منطقة الجعيفر حيث صناعة الأثاث المنزلي والزوارق النهرية و(ربود) المساحي ثم توسع العمل والطلب على الخشب في شتى الاستعمالات.
غابات الموصل
لم يكن بالإمكان تناسي حصة الموصل وغاباتها من هذا الجور، ولاسيما أنها تعرضت إلى عدوان إرهابي غادر أهلك الحرث والنسل فيما أهلك. الزميل (أيهم عمر) مراسل شبكة الإعلام العراقي أفادنا من هناك بأن “أكثر ما عرّض غابات الموصل للأذى المباشر هو المعارك التي جرت بين جانبي المدينة الأيمن والأيسر، حيث شكلت الغابات مكاناً للاحتماء والقصف والقصف المتبادل بين القوات الأمنية العراقية من جهة وفلول الإرهاب المتغلغل بين الغابات والأبنية من ناحية أخرى. هذا القصف أودى بكثير من أشجار الغابات التي تمثل مساحة ليست بالقليلة من غابات الموصل. الشيء الآخر الذي أضرّ بهذه المساحات الخضر هو القطع الجائر الذي نجم عن بعض التصرفات الفردية وقتذاك، أي الفترة التي سبقت عام 2014، إذ عانى الأهالي في المناطق المحيطة بالغابات من شحة كبيرة في الوقود والمحروقات لمدة ليست بالقصيرة، وعليه فقد عمد كثير من هؤلاء للعبور إلى هذه المنطقة وقاموا باستخدام جذوع الأشجار وسيلة للتدفئة والطبخ، حتى تدخّلَ محافظ نينوى آنذاك (دريد كشمولة) وأمر بمنع ذلك وتسييج الغابات على مراحل إلى أن تمّ تسييجها بالكامل في الوقت الحاضر. لكن تبقى هذه الثروة الوطنية بحاجة إلى المزيد من العناية والجهد لأنها مساحة معطاء يمتد عمرها إلى عقود طوال، وهذه مهمة مديرية الحدائق والغابات التي تتبع بلدية الموصل، وهذا الذي ما زلنا نأمله ونتطلع إليه في القريب.
نصوص قانونية
رغم وضوح قانون الغابات والمشاجر رقم (30) لسنة 2009 في مادته السابعة الذي عدّ “الغابات والمشاجر الاصطناعية المملوكة لدوائر الدولة والقطاع العام ثروة وطنية ومن المنشآت المخصصة للنفع العام ولا يجوز التصرف بها أو تقليصها من أية جهة كانت إلا وفقاً للقانون”.. إلا أن هناك دائماً طرفاً يهوّن الأمور، أو يتهرب من مسؤولية الموقف الحاضر، لكن مشهد الدخان المتصاعد ليل نهار على الأرصفة لابد أنه يؤشر خسارة فادحة تهدر كل يوم غير قابلة للإحصاء أو الضبط، وحرائق تستعر ليس في قلوبنا التي ترقب وطناً يحترق فحسب، بل هي أيضاً حرائق في قلب الخشب المشتعل بصمت.