ظاهرة التطرف

737

حسن العاني  /

يذهب علماء الاجتماع إلى أن التطرف ظاهرة إنسانية، سواء على مستوى الفرد أم الجماعة، وهناك بالطبع تفاوت في النسبة بين شخص وشخص آخر، وبين شعب وشعب آخر. مع ذلك فإن العالم بأسره لا يكاد يعرف شعباً مثل الشعب العراقي مفرطاً في كل شيء إلى حدّ التطرف، وتاريخنا وتراثنا وحاضرنا وواقعنا تؤكد هذه الحقيقة البسيطة. وهناك اعتقاد بأن هذا البناء النفسي الاجتماعي، هو انعكاس طبيعي لمناخنا المتطرف، فنحن لا نعرف الوسط ولا الثبات على أنواء جوية واضحة، فما بين بردٍ يجمد الدمع في العين، إلى حرٍ يشوي السمك في قاع النهر، وما بين شتاء تغرق فيه بغداد ويتعطل الدوام الرسمي، وشتاء تخرج فيه الناس الى صلاة الاستسقاء!!
هكذا تأثر العراق بالتطرف المناخي، وأصبح سلوكه عند أقصى اليمين أو أقصى اليسار، إنه يحب بجنون ويكره بجنون، يغضب سريعاً ويهدأ سريعاً، يدعوك مع أسرتك على الغداء في بيته، ولا يترك أكلةَ إلا وطبخها، ولا أكلةً تعلمتها “المدام” من أمها أو من صديقاتها أو من التلفزيون إلا وهيأتها، ولا فاكهة ولا حلوى ولا.. ثم لا ينفكُّ يقسم اليمين تلو اليمين أن “تتناول” هذه “الهبرة” التي اختارها بنفسه لك، ولا يعفيك حتى إن بلغت التخمة، إنه مهووس بكرم المهووس حاتم الطائي، ولكنه لو اختلف معك على (5) آلاف دينار، لا يجد حرجاً في شتم أمك ولو كانت خالته، أو زوجتك ولو كانت أخته!!
هو كذلك.. غير أن تطرف العراقي عادةَ يتمثل في كل ما هو إيجابي ويقع في خانة الخير.. حقاً هو الغالب على طبعه، وليس في دائرة معلوماتي كائن شبيه له في النخوة، يحمي جاره ويخاف على عرضه كما لو كان يحمي نفسه وشرفه، ولا يتردد عن اقتحام النار حافي القدمين لو رأى النار تحاصر طفلاً.. يقف في مصيبة تحل في بيت من بيوت الطرف وقفته في مصيبته، لا يسأل عن مذهب الأخ أو دينه أو قوميته أو عشيرته.. بابه مشرع مثل مضيف بدوي في الصحراء لا تنطفئ ناره حتى يستدل بها عابرو الطريق، ولكن حذار أن تخدعه أو تخونه أو تخدش بابه.. لأنه عراقي..
قبل أربعين سنة تقريباً -إذا لم تخذلني الذاكرة- تفشّتْ ظاهرة المطربين الشباب في العراق، حتى بلغت مبلغ التطرف، ويومها قال الفنان فاضل عواد بشجاعة يحسد عليها: أصبح لكل مواطن خمسة مطربين شباب.. وجاء هذا التصريح المدوي بعد أن أساءت ظاهرة الغناء الرخيص إلى الفن الأصيل والذائقة الفنية.. ويبدو أن الغناء يومها -كما علّق أحدهم- علاج مجرب ومضمون لتخفيف أحزان الناس من الكبت.. ومن الدكتاتورية ومواجعها!!
الآن، وبعد أربعين سنة على ذلك التصريح المدوي، أتمنى لو كنت أمتلك شجاعة فاضل عواد كي أصرح بأعلى صوتي: أصبح لكل مواطن عراقي خمسة محللين سياسيين، لكون التحليل السياسي -كما يزعم البعض- من الأدوية المجربة مختبرياَ، والمضمونة التي عرفتها العديد من الشعوب وتعاطتها قبلنا.. فهو أنجع وصفة طبية لعلاج الناس من حالات البطالة والأوبئة الديمقراطية ومتاعب الأصابع البنفسجية.. مع إن التطرف والاكثار من الاستماع إلى “التحليلات” قد يدمر الخلايا العصبية أو يؤدي إلى السكتة القلبية، أو الإصابة بآخر سلالة من سلالات كورونا!!