الجمال ينتصر ولو بعد حين الروائي والمترجم سلمان كيوش: إخلاصي لمسعود العمارتلي إخلاص لثقافتي الجنوبيّة

1٬142

حوار أجراه: علي السومري /

روائي وأكاديمي ومترجم، ولد في بغداد عام 1958، لكنه طالما تمنى أن تكون ولادته في واحدة من قرى جنوب العراق، فردوسه الشخصي. حصل على شهادة الدكتوراه في التربية وعلم النفس، وهو عضو في نقابة المعلّمين، ونقابة الصحفيين، والاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق.
إنه الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش، الذي ترجم حتى الآن كتباً عدة بينها (عرب الهور) للرحّالة البريطاني ولفريد ثيسيغر، و(حكايات من القلوب وإليها) للمؤلفة الأميركيّة أليس كَري، و(القلق الوجودي) للفيلسوف الأميركي جيمس بارك، و(غذاء الروح) لمجموعة من المؤلفين جمعها كلٌّ من جاك كانفيلد، ومارك فكتور هانسن، و(الدافعية الذاتية) للقس الأميركي أوريسون سويت ماردن.
كما أصدر، عام 2015، مجموعة قصصيّة واحدة بعنوان (مَرادي المعيَّل)، فضلاً عن كتاب آخر بعنوان (مصقولة بطعم الحنظل) عام 2017، وهو مجموعة سيَر لمجموعة من أساطين الغناء في الجنوب العراقي، وموضوعات أخرى، وصدرت له أيضاً عن دار قناديل، عام 2019، رواية (عركشينة السيّد)، يعمل اليوم تدريسيّاً في كليّة التربية ابن رشد، جامعة بغداد. (كيوش) الروائي والمترجم والكاتب، كان لنا معه هذا الحوار، ابتدأناه بسؤال:
•واحد من أسرارك المُعلنة، تعلّقك الكبير بمرويات الأسلاف في محافظة ميسان، ومَن يقرأ لكَ، يشعر بأنّك لم تغادر تلك المحافظة بالرغم من ولادتك في العاصمة بغداد وعيشك فيها حتى اليوم، ما سرّ انجذابك لهذه المرويات؟
-ابتداءً، السرّ يكمن في التعلّق بالمكان، تبعه التعلّق بمروياته كلّها. فأنا مغرم بمكان اسمه العمارة، ومن ورائه الجنوب كلّه. وسيبدو طبيعياً الشغف بكلّ ما يحيط بهذا المكان وما يصدر عنه. أولى الحواس هي السمع، وهي منفذنا الأوّل إلى العالم حين نولد. بها سمعتُ أول الأسماء، وكانت أسماء أمكنة على لسان أمّي مصحوبة بنشيج ساخن دائماً، إذ كانت تردّد مفردات مثل “الواديّة” و”رفيعة” كثيراً، ومن طريقة نطقها لهذه الأسماء عرفتُ، برغم صغري، أن (الواديّة) جنّة برغم ما تثيره من حزن كثيف، عند أمّي في الأقل. وعرفتُ منها معنى الحنين إلى أمكنة تأبى إلّا أن ترسخ في الذاكرة بالرغم من الاضطرار للعيش في أمكنة أخرى. مكان تُجبر على الإقامة فيه لا يمكن أن يكون بجمال مكان ولدتَ فيه مهما كان البون الجماليّ شاسعاً بين المكانين لصالح مكان الولادة. المكان الذي نولد فيه أجمل دائماً. وبرغم أنّي لم أولد هناك، لكني اكتفيتُ بكونه مكاناً وُلد فيه والداي لأقرّر وأقرّ بجمال الواديّة، والعمارة كلّها.
الأمّ أقرب من الأب في تشكيل الوعي. كنتُ قريباً من أمّي جداً، بحكم حاجتي الوجوديّة الماسّة إليها، لأنّي رأيتها الوجود كلّه متجسداً في هيئة بشريّة. مرويات أمّي كانت تردّدها منغّمةً، بـ “التلولي”، قرين النعي ووجهه الآخر. ولك أن تتخيّل معنى أن تستقبل العالم عبر صوت هو أقرب للبكاء. وحين اكتملت حواسي الأخرى، ونضجت قدرتي على فهم الوجود، اكتشفتُ أن أمّي كانت على حقّ كبير، فالعالم قاحل مجدب، ولكي تعيش فيه عليكَ التسلّح بقدرتك على التذمّر منه، واستقباله على أنّه ليس آمناً ما دام السائد الآن، في المكان الذي لم تولد فيه، مستفزاً ولا يكفّ عن تقديم الأسوأ. أستطيع أن أوجز فكرتي بالآتي: المكان آمن وجميل ويبعث على الطمأنينة ما دامت الأمّ تستقبله بحرارة.
•ترجمتَ عن الّلغة الانجليزيّة إلى الّلغة العربيّة كثيراً من الكتب، في الفلسفة وأدب الرحلات، كيف تختار ما تترجمه؟
-الترجمة عندي لا تجري بسلاسة. هي عملية تشبه النحت على الحجر الصلد، والسبب متوقّع ومفهوم، هو أنّي لم أدرسها دراسة أكاديميّة، وكان يمكن أن أبدع فيها كثيراً لو أنّي قُبلتُ طالباً في قسم اللغة الإنجليزيّة كما تمنيتُ دائماً. كانت اللغة الانجليزيّة، ومعها العربيّة، الدرس الوحيد الذي أشعر أنّي لا أنتهك فيه ولا ينتابني الرعب، رعبُ عدم الفهم أو قلّة الاستيعاب. ولأنّ معظم زملائي يجدون صعوبة مع الإنجليزيّة والعربيّة، لذا تجدني شاعراً بأهميّتي بينهم، فغدا التفوّق فيهما فرصتي الوحيدة لإثبات الجدارة في الحياة. ما أروع أن ندرس ما نحبّ!
الترجمة اكتشاف سهل وفي المتناول دائماً، فما عليك سوى أن تنظر بتحدٍ إلى النصّ المكتوب باللغة التي لا تعرفها وتقول: “هذا نتاج عقل يشبه عقلي، من إنسان يشبهني في قدرته على التعاطي مع الحياة، وأسبابه للألم والابتهاج هي أسبابي نفسها، لكن أداته للإعراب عنهما مختلفة فقط. إذن، عليّ فهم هذه الأداة”.
ولأنّي أمتلك خزيناً معرفياً كبيراً عن الإنجليزيّة ابتداءً من الدراستين الابتدائية والثانوية أضف إليهما سنة دراسيّة (مصادفيّة) في كليّة الآداب جامعة بغداد ـ الدراسة المسائيّة، اكتشفتُ أن الترجمة ليست مستحيلة، فترجمتُ نصوصاً قصيرة كثيرة جداً وأنا طالب في الماجستير، استقبلها أساتذتي بانبهار شديد حين علموا أنّها جهدي أنا وليست جهود مترجمين خارجيين يقبضون مبالغ كبيرة ثمناً لها. وهكذا عرفتُ أني أستطيع!
في عام 1999 عثرتُ على كتاب (عرب الهور) للرحالة البريطاني (ولفريد ثيسيغر) في المكتبة المركزيّة لجامعة بغداد. بهرني الكتاب المصوّر، سحرني. أوقفتُ أنشطتي الدراسيّة المفروضة وانشغلت بترجمته! وحين بدا واضحاً أنّي يمكن أن أخسر الماجستير، “راوستُ” بين الجهدين، جهد متابعة دراستي الأكاديميّة والترجمة، مع انحياز واضح للترجمة. الوقت الذي أمضيه في ترجمة كتاب ثيسيغر ألذّ بكثير من أي جهد آخر. كانت البهجة طافحة عليّ وأنا أترجم. شعرتُ أنّي تضاعفتُ وازددتُ ألقاً وأنا أنجح في جهد عجز عنه كثيرون غيري. كان الحبّ أوضح ما بي، فبالحبّ كنت أترجم، وأتابع الترجمة. ولأن بعض التراكيب باللغة الإنجليزيّة شاقّة على غير المتخصص مثلي، كنت أفزع إلى الصديقين الحبيبين المختصين باللغة الإنجليزيّة: الدكتور عايد مطر، رحمه الله، والدكتور هيثم الزبيدي، حفظه الله. ولم يكونا يتذمّران من إلحاحي وكثرة استيضاحاتي. وهكذا تمّت ترجمة الكتاب، وأصبحتُ الأقرب لما أراد المؤلف قوله كما أدلى بذلك كثيرون ممن قرأوا كتابي وترجمات أخرى للكتاب نفسه. وفي الكتاب الثاني وجدتُ الصعوبة أقلّ، ذلك أن اللغة مجموعة أسرار معلنة إذا جاز هذا التوصيف.
الأروع من الترجمة هو اختيار المادة. أذكر أني بدأت ترجمة كتاب جزمت بأهميّته الاستثنائيّة، وقطعتُ فيه شوطاً طويلاً من الجهد المضني ثم اكتشفت مصادفة أن الكتاب مترجم وموجود في مكتبات بغداد!! هذا يعني أن المعرفة الأوليّة في كون الكتاب بِكراً لم تتناوله أقلام المترجمين معرفة أوليّة لازمة. أستثني من هذا الإعمام كتب الأدب، فمن الممكن إعادة الترجمة إن كانت الترجمة الأولى هشّة ولم تقف على اكتناه أسرار النصّ بجدارة. والموضوع برمّته نسبيّ، خاضع للقناعات الشخصيّة للمترجمين.
إذا ضمنتُ أن الكتاب بكر، ويخوض في الفضاء الذي يسحرني، فلن أتردّد في الشروع بترجمته. هذا هو المبدأ الكبير الذي أعمل وفقه.
•هل أنت مع مَن يقول بخيانة الترجمة، أم مع مَن يقول إنّها اجتهاد؟ أحقاً أن الترجمة نصّ ابداعي مختلف عن النصّ المترجم؟
-نعم، الترجمة خيانة للنصّ الأصل، والسبب معروف، هو أن اللغة، أية لغة، بنية تختلف عن بنية اللغات الأخرى بالضرورة. هي نتاج متراكم لمزاج الشعب الذي ينطقها. لذا، يبدو من المحال انتظار تطابق تامّ للنصّين، ولاسيما مع النصوص (البوحيّة)، إذا جازت هذه التسمية، أعني الأدب برمّته. قد تكون الخيانة أقلّ بكثير مع النصوص العلميّة، لانحياز النصّ العلمي نحو الحديّة وندرة الاختلاف في تأويله.
أنا مع القول إن الترجمة اجتهاد في كلّ الأحوال، ودليلي على هذا أنك لو أعطيتَ نصاً واحداً لمجموعة من المترجمين لترجمته لأعطوك نصوصاً بعددهم من حيث الاختلاف. هذا يعني أن النصّ المترجم نصّ ابداعي دائماً إذا ما غضضنا الطرف عن رصانة الترجمة.
•كتبتَ كثيراً عن الموسيقى وشجونها وحكاياتها وشخوصها، إلّا أنّك تقف كثيراً عند سيرة مسعود العمارتلي. كيف أثّرت فيك هذه الشخصية، ولماذا؟
-هل تصدّق لو قلتُ لك إني أحمد الله كثيراً على نعمة مسعود؟! لا ينتهي مسعود عندي في كونه مطرباً أحبّ الاستماع إليه، لا. بل أجدني أحبّه هو حتى لو لم يكن مطرباً، أو لو لم يكن صوته بهذه العذوبة. عذوبة صوته مجرد إضافة تكميليّة لحبّي إياه. امتدّ تأثير مسعود بي إلى ما يمكن تسميته بالهيمنة. كأنّه محكّ أو معيار لفضاء كبير اسمه الطرب والمطربون. لا أستمع إلى مطرب في أغنية ما إلّا ووازنته وقارنته بمسعود، فمن يقترب منهم من فضائه يفُز بالحظوة لدى ذائقتي. أشعر أنّي يجب أن أكون مخلصاً لمسعود وكأنّه طلب منّي ذلك وأوصاني به. إخلاصي لمسعود يعني إخلاصي لثقافتي الجنوبيّة وانحيازي التفضيليّ لها. سأوجز لك تأثّري بمسعود بالجملة الآتية: أنا أعشق مسعود، إذن أنا على صواب!!!
•في قصصك وروايتيك، (مرادي المعيَّل) و(عركشينة السيّد)، ثمة بوح عمّا جرى تغافله في الأدب العراقيّ. أهذا مشروع دائم لك؟
-لا أستطيع الزعم أني ألج فضاء سردياً بِكراً لم يطأه كتّاب عراقيون آخرون. قد أكون مكمّلاً لما بدأوه. غير أنّي لا أترسم خطاهم حتى لو تمّ الاتفاق على أنّها أرصن وأوسع. أستطيع أن أوجز لك سلمان كيوش السارد بأنّه بلا اطلاع تفصيليّ على تجارب غيره السرديّة، ولا دراية لديه بالمدارس النقديّة والتقنيات. وحتى لو حصل هذا الاطلاع فما كان ليزيدني شيئاً. أتعامل مع السرد وكأنّي أقصّ حلماً على مسامع مفسّر أحلام رصين، فلا حاجة بي لتزويق حلمي أو تهذيبه، مهارتي تتلخّص في سرده كما هو كي يكون التأويل دقيقاً.
ديمومة مشروعي تأتي من معرفتي التفصيلية بأسرار الجنوب التي يغبطني غيري من الأصدقاء عليها. أنا أعرف الجنوب، ومولع به. وهذا ما يؤهّلني للنجاح في تقصّيه. فالكتابة عن بيئة تعرفها معرفة دقيقة وتحبّها بشدّة ستغدو مضمونة النجاح، على العكس مما لو خضتَ في ما لا تعرف، فقد تنجح فنياً غير أن تأثير منجزك سيكون مثلوماً..
•نعرف بأن نظام البعث الفاشي وسياسة الطاغية المقبور قد تعمّدت إهمال ثقافة الجنوب العراقيّ وموروثه، بل عمدت إلى الإساءة إليها. برأيك، هل يمكن لكم، بوصفكم كتّاباً ومثقفين، إعادة الاعتبار لهذه الثقافة؟
-تأكّد أن الجمال ينتصر في النهاية ولو بعد حين. فبرغم محاولات النظام الفاشي الوقوف بوجه المنجز الجماليّ الجنوبيّ، غير أنّه لم يفلح، وكان يعرف أنّه لن يفلح. فهو لا يقمع فرداً أو مجموعة أفراد منتمين لحزب مناوئ له، ويمكنه هزيمتهم، هو يتعامل مع وعي راسخ وقديم، يتعامل مع تاريخ وصناعة فاخرة للحياة. نعم، استطاع المقبور أن يوهم نظامه بأنّه أقصى الجنوب إعلامياً وافتراضياً، وحاول العثور على بدائل لهيمنة ثقافته على مجمل الذائقة العراقيّة، غير أنّه مهزوم عملياً أمامها. خذ الغناء العراقي مثالاً يوضّح الفكرة، وحاول أن تعرف أي نوع من الغناء تسيّد الساحة الآن. لا شكّ أن المنصف سيقول لك إن الأغنية الجنوبيّة هي المستمرّة، وغيرها إلى اندثار وتلاشٍ. هذا مفصل صغير فقط من مفاصل الثقافة الجنوبيّة لتوضيح الفكرة. إذن، لا حاجة بالمثقف العراقي إلى إعادة اعتبار قصديّة لهذه الثقافة بعد أن زال العائق الوقتيّ الطارئ بزوال نظام فاشيّ عاتٍ. كلُّ ما عليه فعله الآن هو أن يباشر إنجاز ما أرجأ إنجازه لعقود عجاف فقط.
•ما جديد الدكتور سلمان كيوش؟
-عليك أن تعرف، يا أستاذ علي، أنّي أوازن بقلق الآن بين ما بقي لي من عمر وما أتمنى انجازه. هناك غلبة ووفرة لما أنتظر إنجازه مقارنة بما بقي من سنين، وفرة باعثة على الحزن!
أمامي الآن ثلاثة كتب؛ الأول عن مسعود العمارتلي، وهو في مرحلة “التشطيب”. كتاب أعدّه منجز عمري، أستعرض فيه كلّ ما عرفته عن مسعود. والثاني رواية اسمها (طريفيّة)، كنت قد نشرت حلقات منها في صفحتي على الفيسبوك، ثم أوقفتها بعد أن تغيّر استعدادي للتعاطي معها من كتابة فيسبوكيّة سريعة إلى اجتهاد روائي متأنٍ. أما الثالث فتستطيع القول إنّه مكتمل، عنوانه (نون الجنوب الساكنة)، وهو على غرار (مصقولة بطعم الحنظل)، مجموعة مقالات أو قل مجموعة نصوص لا أعرف كيف أجنّسها. هذا الكتاب لا يحتاج، لكي يرى النور، إلّا لجهد الناشر.