الاستثمار فيها يعني الاستثمار في الحياة الفلسفة وأهميتها للفرد والمجتمع

357

استطلاع أجراه: علي السومري /

لا يمكن تجاهل قيمة الدرس الفلسفي في بناء المجتمعات المتحضرة، وربما لو نظرنا إلى أغلب دول العالم المتقدم لوجدناها من أوائل الدول التي أولت الاهتمام بهذا العلم المعرفي، الذي يسهم في ترسيخ الوعي وانفتاح المخيلة والبحث عن المعنى.
تلك دروس مهمة للشعوب التي تحاول مواكبة العصر، أو للشعوب التي غزتها الأفكار المتشددة التي أنتجت في النهاية أفكاراً ظلامية معادية للتسامح وفهم الآخر المختلف. وهذا الأمر كان دوماً محل جدل ونقاش لدى المتخصصين والمهتمين بالشأنين الثقافي والمعرفي، وذلك لأهميتها في رسم ملامح الأجيال وطرق تفكيرهم. باحثون ومتخصصون أشروا على الدوام غياب هذا الدرس المهم من مناهجنا التعليمية، وانحساره عن الدراسة التخصصية في الجامعات، في وقت يؤكدون فيه أن هذا العلم الواسع والمحيط بجميع العلوم الأخرى لا يقل شأناً عن باقي العلوم الإنسانية أو العلمية.
في هذا الصدد توجهنا إلى عدد من المتخصصين والباحثين لمناقشتهم في أهمية هذا الدرس الفلسفي، وعن أسباب عدم اهتمام المتحكمين بالشأنين السياسي والتعليمي به، وكيف يمكننا استثماره اجتماعياً؟ وما الخطوات المطلوبة من المؤسسات التعليمية لتنشيطه؟
حاجةٌ وليست ترفاً
عن أهمية هذا الدرس، يقول (الدكتور علي المرهج)، وهو أستاذ فلسفة أكاديمي: “الفلسفة حاجة وليست ترفاً، لأن الأمم التي ليس فيها فلاسفة هي الأمم التي لا يشعر مجتمعها بقيمة العقل ودوره في بناء الحياة العلمية والثقافية.” مشيراً إلى أن الفلسفة مهمة لا للطالب حسب، بل للدولة التي تريد أن تحافظ على تماسك المجتمع المتعدد الأطياف، وأن الطالب ماهو إلا تحصيل حاصل للمجتمع.
تنمية عقل الطالب
أما (الدكتور ستار عواد)، وهو أكاديمي متخصص بالفلسفة أيضاً، فأوضح أن للدرس الفلسفي أهمية كبيرة في تنمية عقل الطالب وتدريبه على استخدام العقل في كل العلوم، وفي تنميته للقدرة على استيعاب القضايا الكبرى، مضيفاً أن: “الفلسفة ليست علماً بل هي آلية ومنهج يستفيد منه الطالب في كل المواد الدراسية، ولاسيما أن استخدام المنطق – الذي يعد أهم أقسام الفلسفة- يعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء الفكرية ويميز الأفكار المتناقضة والخاطئة.” مبيّناً أن الطالب في دراسته الفلسفية هذه يكون قد أخذ مفاتيح جميع العلوم التي انطلقت من الفلسفة، مشيراً إلى مساهمتها في تنمية السلوك العقلاني في مجالات الحياة كافة.
قيمٌ إنسانية
في حين تحدث الكاتب والباحث الاجتماعي (واثق صادق) عن أهمية هذا الدرس بقوله: “لأكن مثالياً جداً في إجابتي، وأقُل أن نظامنا التعليمي متأخر جداً في تدريس هذه المادة، إذ أنها تقتصر على درس واحد طوال السنوات الاثنتي عشرة التي يقضيها التلميذ في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، بينما من المفترض أن يتلقى التلميذ في مراحل مبكرة جداً – وهو ما يحدث في مدارس العالم المتقدم – مهارات التفكير الفلسفي والنقدي بشكل مبسط على أيدي معلميه في كثير من الدروس التي يتلقاها.” مبيّناً أهمية هذا الدرس في تطوير قدرات الفهم والاستدلال والقراءة والتعبير، وأن هذه المهارات تنمي لدى التلميذ ثم الطالب في مرحلة التعليم الأكاديمي المتقدم القدرة على التفكير والسلوك العقلانيين في شتى مناحي الحياة، كما تعزز القدرة على حل المشكلات اعتماداً على القواعد المنطقية الصارمة، مضيفاً: “كما يمكن أن يشكل الدرس الفلسفي في الوقت ذاته دعامة سلمية وراسخة في معرفة الحق والتمسك به، والابتعاد وتجنب طرق الشر والرذيلة، ويمنح الطالب القيم الإنسانية السمحاء كقبول الآخر، وتقبل النقد، والحوار البناء القائم على الجدل المنطقي.”
معرفةٌ جديدة
وفي معرض جوابه على السؤال الذي يبحث عن أسباب تذمر أساتذة الفلسفة من عدم الاهتمام بهذا الدرس المعرفي، قال الدكتور علي المرهج: “لأن في الفلسفة قيمة علمية وثقافية وجمالية، ولك أن تلحظ كل الفنون والعلوم التي يهتم أصحابها بالفلسفة، ستجد أنها تكشف لنا عن معرفة جديدة تتسم بخلق وعي فيه خدمة المجتمع ورفع تذوقه الثقافي والجمالي.”
في حين أشار الدكتور ستار عواد في إجابته على هذا السؤال إلى ما تعانيه العلوم الإنسانية عموماً والدرس الفلسفي خاصة من إهمال كبير، مبيّناً أن كل هذا يرجع إلى السياسات التعليمية التي تتغافل مرة عن أهمية تلك العلوم في بناء الإنسان، وتتعمد الإهمال مرة أخرى من جراء سيادة الأنظمة الشمولية التي لا تريد تعليم مواطنيها مفاهيم الحقوق وحرية الرأي والديمقراطية والنقد، مضيفاً: “لذا فهي تدرك تماماً أن العلوم الإنسانية تسهم في صنع الإنسان الحر غير الخاضع لتنميط الفكر، ولأنها -الفلسفة – تربي النشء على مقارعة الآيديولوجيات، وزرع الشك والتمرد، وعدم الخضوع للأفكار والسياسات، لذلك نجد على مدار السنين أن الدولة تتعمد عدم الاهتمام بها وبالعلوم الإنسانية، فحرمتها من الابتعاث أو تطوير المناهج.”
خللٌ اجتماعي
أما الكاتب والباحث الاجتماعي واثق صادق فتحدث عن هذه الموضوعة قائلاً: “أعود إلى إجابتي عن السؤال الأول، فلو أن التلميذ والطالب اعتادا التفكير المنطقي، والتحليل والنقد، وأسلوب العصف الذهني بينهما وبين المُدرس والمُعلم في مرحلة مبكرة من حياتهما التعليمية، فلن تجد الهيئة التدريسية الأكاديمية تململاً وضيقاً من الطلبة بخصوص هذا الدرس، بل ستجد لديهم الاستعداد والمهارات والمتابعة المستمرة لما يطرح من آراء وأفكار، وقدرة على المناقشة والتعاطي، هذا من جانب، كما يمكن أن نؤشر أن الخلل العام في النظام الاجتماعي، وسوء إدارة الأزمات فيه، ينعكس بالتأكيد على هذا الدرس الذي في الوقت الذي يجب أن يكون فيه قادراً على حل المشكلات المعقدة، يجد الطالب فيه أنه لا إمكانية حقيقية لديه على التعاطي مع الشأن العام، وهو ما يصيبه لاحقاً بالإحباط وينعكس بدوره على اهتمامه بهذا الدرس.”
الإيمان بالآخر
أما عن إمكانيتنا في استثمار درس الفلسفة اجتماعياً، فيقول الدكتور علي المرهج: “في الفلسفة نحن نحصن المجتمع من التقوقع حول المعتقد الموروث، لذلك أعتقد أن الاستثمار في الفلسفة يعني الاستثمار للحياة وفي الحياة المستقبلية، التي تصنع مجتمعاً خالياً من عقدة احتكار الحقيقة ومحاربة المختلف.”
وقال الدكتور ستار عواد: “الفلسفة تبعد المجتمع عن الانحدار نحو تصديق الخرافة والأساطير، وتبني مجتمعاً سليماً يفكر بالسلم والأمن.” مشيراً إلى أن للفلسفة القدرة على تذويب الهويات والطوائف، وجعل الفرد يؤمن بالآخر المختلف دينياً واجتماعياً، وبأنها تلغي الطبقية والأفضلية والأحقية.
تأقلمٌ مع المتغيرات
أما الباحث واثق صادق فأوضح في جوابه أن أهمية درس الفلسفة على الصعيد الاجتماعي تكمن في كونه أحد الروافد المهمة لمعرفة أصول النظام الاجتماعي التربوي، الذي يشكل القاعدة الأساسية للحياة الاجتماعية لأي مجتمع، بمعنى أنه يعمل على وفق الآلية التي تنتهجها عملية التنشئة الاجتماعية للأفراد، التي تقود الى تحويل الكائن البشري إلى فرد اجتماعي يعي حريته وحدوده الاجتماعية، ويسير على وفق المعايير والقيم المقبولة اجتماعياً وأخلاقياً، مضيفاً: “كما لا يخفى أن هذه العملية الاجتماعية إذا استثمرت بشكل سليم عبر الدرس الفلسفي، من جهة ترسيخ التربية الوطنية والنشأة الوطنية الصالحة للأفراد، ستعمل على منحهم فهماً عميقاً لحقوقهم وواجباتهم من جهة، وقدرة كبيرة على التأقلم مع المتغيرات الاجتماعية المتلاحقة من جهة أخرى.”
قيمةُ الفلسفة
وفي سؤالنا عن المطلوب من المؤسسات الحكومية التعليمية لتنشيط هذا العلم، قال الدكتور علي المرهج: “المطلوب هو إدراك قيمة الدرس الفلسفي للحفاظ على المجتمع لأنه تنمية وعي بالحرية والمسؤولية والعقلانية.”
أما الدكتور ستار عواد فقال: “المطلوب إدخال المناهج الفلسفية لتبدأ من الدراسة الثانوية وتستمر ثلاث سنوات، فضلاً عن إدخال مفاهيم فلسفية لشتى التخصصات في الكليات العلمية والإنسانية.”
في حين أشار الباحث الاجتماعي واثق صادق، في معرض إجابته عن هذا السؤال، إلى أن تنشيط هذا العلم يحتاج إلى حلول جذرية ومهمة على أكثر من صعيد، تبدأ من إعادة النظر في المناهج عموماً، على نحو يشمل كل المراحل التعليمية من الابتدائية إلى العليا، مروراً بإعادة تأهيل الهيئات التعليمية والتدريسية لجعلها قادرة على التعاطي مع المنهج الجديد من جهة، والتلاميذ والطلبة من جهة أخرى، مع الاهتمام بالأقسام التي تعنى بالفلسفة والتي تعنى بالفرد والجماعة والمجتمع بشكل عام، عبر تأهيلها مادياً ومعنوياً على الصعد كافة، لتكون قادرة من ثم على رفد المؤسسات التعليمية الحكومية، وحتى الأهلية، أو المؤسسات الحكومية غير التعليمية بملاكات متعلمة، ومؤهلة معرفياً للتعاطي مع المشكلات الاجتماعية والمستجدات الحياتية.