زيارة الأربعين في الكتاب المقدس

2٬406

إيزابيل بنيامين ماما آشوري /

وأنا في الموصل الحبيبة مع عائلتي وبقية أهالي المنطقة نُعيد بناء ما هدمته قطعان “داعش”. بينما كان الراهب (جبرئيل دنخا كوركيس) عن الكنيسة الآشورية الرسولية، يتنقل بين العائلات بهدف جمع التبرعات لبناء بعض الكنائس التي جرى تخريبها قدمني خالي، الذي كان حاضراً في الكنيسة، إلى الراهب قائلاً: بنت أختي إيزابيل بنيامين، فالتفت الراهب وقال: “أنت التي صدعتِ رؤوسنا، مالي لا أراك تذهبين إلى زيارة الأربعين الشيعية وأنت تقولين إنها مذكورة في الكتاب المقدس في سفر إرمياء.”
أين هذا الجمع العظيم؟
سألته: وهل قرأت نص إرمياء؟ فأخرج الكتاب المقدس من جيبه وفتحهُ على إرمياء وقرأ النص، ثم قال: “لم أجد كربلاء في سفر إرمياء!”
فقلت له سوف اقرأ لك الجزء ما قبل الأخير من السفر: قال إرمياء يصف حدثاً سوف يتكرر كل عام: “ها أنذا آتي بهم من أرض الشمال، وأجمعهم من أطراف الأرض. بينهم الأعمى والأعرج، والحُبلى والماخض معاً. جمعٌ عظيم يرجعُ إلى هنا ـ كل عام ـ بالبكاء يأتون، وبالتضرعات أقودهم. أسيّرهم إلى أنهار ماء في طريق مستقيمة لا يعثرون فيها.” (سفر إرمياء 31: 9)
فقال: ولكن أين كربلاء؟
فقلت له: أسألك؟
قال: تفضلي.
قلت: هل تستطيع أن تقول لي أين هذا الجمع العظيم الذي يأتي كل عام باكياً من أطراف الأرض. بينهم الأعمى والأعرج والحبلى والصغير والكبير والمريض والصحيح؟ أين هذا الجمع الذي يصفه الرب بأنه جمعٌ عظيم؟ ومن أين استمد عظمته وفي أي مكان يجتمعون؟
فسكت ولم يحر جواباً، ثم قال: “ولكن سفر إرمياء يتحدث عن بني إسرائيل.”
فقلت له: ولكن أين هذا الجمع؟ وهل بنو إسرائيل اليوم يفعلون ذلك؟ وهل يأتون إلى جهة معينة بالبكاء والنحيب والتضرعات ويجتمعون من أطراف الأرض نحو هدف محدد لهم؟ ألا ترى أن المسيحية بدأت تنتبه لذلك فتُشارك في هذا الجمع العظيم السائر نحو كربلاء وهم يحملون الصلبان والرايات، فيندفعون بكل أمان نحو الهدف المرسوم لهم؟ ألم تقرأ إرمياء وهو يقول: “ها أنذا آتي بهم ــ وأجمعهم ــ أقودهم ــ أسيّرهم.” والمقصود هنا هو الله الرب الذي يأتي بهم، إذ تعهد بأن يجعل مثوى هذا القديس قبلة للزائرين وقبلة للأحرار، وقبلة للعاشقين. ثم اسألك يا جناب الأب: هل تستطيع أن تخبرني عن سبب انتشار قبور المسيحيين حول بقعة كربلاء؟ هل تعلم يا جناب الأب أن أول من بكى من النصارى راهب احتضن رأس الحسين في كنيسة في ضواحي الموصل باتجاه نصيبين؟ هل تعلم يا جناب الأب أن أول من قُتل في كربلاء من النصارى هو (وهب بن حباب الكلبي)، وقد قُتلت معهُ أمه، فماذا كانا يفعلان هناك؟ وهل تعلم ثاني من قُتل من النصارى من هو؟ إنه كبير بطارقة الروم الذي كان مبعوثاً إلى يزيد من قبل ملك الروم، فاعترض على قيام يزيد بنكث ثنايا الحسين أمامه فأمر بقتله.
يا جناب الأب جبرئيل، سيبقى قولي إنها كربلاء وإنها زيارة الأربعين، حتى تأتيني بما يُناقض كلامي.
فقال الراهب : لقد أكثرتِ عليّ، أنا كنت أمزح معك، فلقد زرت قبر المقدس الحسين مع وفد الكنيسة المشرقية الرسولية الآشورية مع غبطة البطريرك الكاردينال مار عمانوئيل الثالث دلي عام 2011، فشعرت بهيبة المكان وشعرت كأني في عالم لا علاقة له بالأرض ولم أشعر بمثل هذا الشعور في أية كنيسة أو مكان.
كل عقل يحتاج إلى هزّة عنيفة لكي ينتبه إلى الحقيقة.
اسألوا النصارى واليهود: لماذا يعشقون الحسين؟
ثمة من يسألني مالكِ والحسين وقضايا المسلمين؟ فأقول لهم اذهبوا وقولوا لمئات الألوف من اليهود والنصارى الذي يعشقونه، لا بل حتى الملحدون والشيوعيون والعلمانيون، وحتى الوثنيون ممن يتخذون من الحسين رمزاً رافضاً للظلم وثائراً أوحدَ على طول التاريخ، لمَ يحبونه ويتخذونه قدوة.
وضع أحدهم مشاركة على صفحتي، وفيها صورة لغاندي وهو يصف تأثره بثورة الإمام الحسين (عليه مراضي الرب)، فلم أر أي تعليق سلبي على تصريح الزعيم غاندي حول الحسين (عليه مراحم الرب)، وبالمقابل لم أرَ أي تفاعل مع ما قاله غاندي، مع أن الحسين للمسلمين، فعرفت أن هناك ظلماً لا يزال يحيق بهذا المقدس.
وأتساءل لمَ لا يستغربون عشقي للحسين، مع علمهم بأني مسيحية، وإنما عشقت الحسين لأنه شعار لرفض الظلم في أي مكان.
هذا الظلم الذي يرفضونه أنفسهم الآن، ولكن لا يتخذونه أسوة لهم وقيادة يستمدون منها المبادئ المُثلى في محاربتهم للظلم، لذلك فهم يدورون في حلقة مفرغة، لأن من لا هدف له فسهمه طائش.
إن لم نحب الحسين لأنه مقدس، فإننا نحبه لأنه أصبح رمز الثورات ورمز مقارعة الظالمين، وأنا احصيت آلاف الأقوال والأشعار من غير المسلمين في الحسين وثورته.
لا أدري من القائل من رجال الثورة في إيران، لكني أتذكر حديثه الذي قرأته والذي يقول فيه: “إن دموع الباكين على الحسين تجمعت وأحدثت طوفاناً أزاح الشاه وأعوانه.” كذلك أتذكر قول قائد من قادة حزب الله في لبنان عندما سألوه عن سر انتصارات الحزب على إسرائيل العظمى فقال : “إن كل ما عندنا من الحسين.” وغاندي عندما سألوه قال : “تعلمت أن أكون مظلوما مثل الحسين فانتصر.”
قضية الحسين
مهما حاول الناس حجب الشمس عن العين، فلابد من أن تتحسسها الروح، فكم أعمى رأى ما لم يرَه المبصرون، وأنا أحكي لكم هذه القصة لكي تعرفوا ماذا أقصد:
“قبل ألف سنة كان هناك رجل أعمى يصلي في المسجد، وكان إلى جانبه رجل يقرأ القرآن. سمع الأعمى القارئ يقرأ: ((أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت))، فقال الاعمى للقارئ: هل هذه الآية في القرآن؟ قال الرجل نعم، فقال له الرجل إن الله لا يذكر شيئاً في القرآن إلا وفيه عجيبة أو معجزة، فطلب الأعمى من القارئ أن يصف له البعير فوصفه له، فسأله الأعمى: هل للبعير خمس أرجل؟ قال القارئ: لا، بل له أربع أرجل فقط.
فقال الأعمى: مستحيل ما تقوله، لأن لو كان للبعير أربع ارجل لاندق عنقه وانكسر عندما يبرك. فطلب الأعمى من القارئ أن يتفحص الأمر، فخرج القارئ ووجد بعيراً مربوطاً بباب الجامع لرجل يصلي، فتفحصه جيداً فوجد رِجلاً خامسة تحت العنق مباشرة على الصدر تتلقى صدمة ثقل العنق عندما يبرك الجمل.
فرجع القارئ وسأل الأعمى: هل كنت مبصراً ثم عميت؟ فقال الأعمى: لا، فقد ولدتني أمي أعمى لم أبصر من الدنيا أي شيء.
فقال له القارئ: فكيف علمت أن للجمل رجل خامسة وأنت لم ترَه؟
قال الأعمى: تعجبت من خالق خلق كل شيء يلفت نظرنا إلى البعير فقلت لابد من أن هناك علّة ما تدل على دقة الصنع.
وأنا، إيزابيل بنيامين، أقول: منذ أيام كتبت موضوعاً عن الحسين بمناسبة قدوم شهر محرم، ولذلك سوف أنشره، فقط للحقيقة ولكوني وجدت إلى ذلك إشارة في الكتاب المقدس تدل على أن قضية الحسين ليست بالأمر الهيِّن.
وقد رأيت كيف يُجلل الحزن كنائسنا في ذكرى إهداء رأس يوحنا المعمدان في طشت إلى القيصر، يوحنا الذي يقول عنه المسيح: “لم تلد النساء أعظم منه.”
عندما أقمت في أوروبا رأيتها تتشح بالحزن في يوم معين من السنة يُطلق عليه
((Al juhans)) وهو يوم عطلة عندهم وكلمة (يوهانوس) تعني يوم قطع رأس يوحنا، وهو نفس القول الذي وجدته في خطبة زين العباد (عليه مراضي الرب) في الشام عندما قال : “من عجائب الدنيا أن رأس يحيى يُهدى إلى بغي من بغايا بني اسرائيل.”
على قلوبهم أقفال
هناك كثيرون منا مع الأسف لا يستخدمون عقولهم: لهم أعينٌ لا يبصرون بها، وإذا ابصروا لا يتفكرون, وإذا تفكروا لا يتدبرون، لأنهم “على قلوب أقفالها”، آه من الثقافة المغلوطة التي تزرقها الأباطرة والقياصرة وحكام السوء.
ألم يقل فرعون لقومه إنه ربهم الأعلى فعبدوه؟! هذه الثقافة المغلوطة التي تزرق في العقول، انظر كيف تعيق هذا الفكر المبدع الخلاق عن الإبداع، كم هو محروم الإنسان الذي لا يستقي من الفيض الصافي لخدّام الرب الأنبياء، فهو في تراجع حضاري وإنساني، ما زلنا نرى مصاديقه على أرض الواقع.