الترجمة الأدبية… بين روحية النص والخلق الجديد

1٬192

استطلاع: رجاء الشجيري /

النصوص الأدبية المترجمة تعددت رؤى وسياق مترجميها، فهي غالباً ما تكون إما نصوصاً جديدة بروحية وشكل مغايرين عن أصلها، وإما أنها تفقد الكثير من مضمونها وسياقها بلغتها الأم إذا ما تمسكت بنصها الاصلي..
“مجلة الشبكة” طرحت هذه الجدلية بين مترجمين وكتّاب وشعراء، بشأن تأثير الترجمة على الأعمال الأدبية، وما إذا كانت تأخذ من النص المترجم أو تضيف إليه؟
إدراك وأخطاء
قيل عن الترجمة إنها إما أن تكون جميلة أو مخلصة، فإذا أريد لها أن تكون جميلة يجب أن تكون غير مخلصة أو خائنة.. وإذا أريد لها أن تكون مخلصة فإنها لن تقترب من الجمال بكل أنواعه..
الكاتب والمترجم (رياض العلي) يقول :
“الترجمة هي من أصعب أنواع الكتابة، ولاسيما في الأعمال الأدبية، لأن عماد هذه الأعمال هو الاستعمال الأدبي للغة، وتكون مهمة ترجمة الأعمال السردية أهون من الشعرية، لأن الأخيرة قائمة على الاستعارات والمجاز والرمز وغيرها من البلاغات اللغوية، لذا فإن ترجمة الأعمال الشعرية لايقوم بها إلا من له معرفة جذرية في فقه اللغتين وثقافتيهما، وكذلك فهم كبير للشعر، ومع ذلك لاتكون الترجمة الشعرية متطابقة مع المعنى اللفظي والشعري للنص المترجم.”
ويشير (العلي) إلى “أن المترجمين يقعون عند ترجمتهم للسرد في أخطاء عديدة، منها أنهم لا يعرفون بعض التراكيب والأفكار التي يعرضها السارد، لأنها في الغالب تخص ثقافة شعبية خاصة أو محلية أو لها جذور متأصلة في التراث القديم أو الأساطير أو بعض الأماكن أو الشخصيات التاريخية، فيقومون بنقلها بعد تعريبها، وليس ترجمتها، إذا كانت كلمة واحدة، أو نقلها حرفياً دون فهم، ما يربك القارئ، وربما يؤدي إلى فهم خاطئ أو غموض في المعنى العام.”
سجادةٌ مقلوبة!
فيما يذكر المترجم الكاتب (حربي عبد الله) أن اللغة ليست قوالب لفظية فقط، وإنما روحاً تُعنى بالأحاسيس والمشاعر وكل ما يلامس الوجدان. وأنها – الترجمة – من لغة إلى لغة ومن لسان إلى لسان تقوم بمهمة نقل كل ما تحمله هذه الروح، لذا قيل إن كل لسان بإنسان.. مشيراً إلى أنه بالرغم من ذلك، فإن هناك من يردد “أن الترجمة في أحسن أحوالها سجادة مقلوبة.” وهذه دعوة لتخيل الألوان وتدرجاتها من الزاهي إلى الباهت.. لكن كل ذلك لا يلغي أبداً دور الترجمة وما تقدمه من خدمة جليلة للفكر والوجدان الإنساني معاً.
مضيفاً: “لولا الترجمة لكنا سنعيش في مناطق يحاذيها الصمت.” هذا ما قاله (جورج ستاينر)، وهو فيلسوف وناقد أدبي أميركي. أما الروائي والصحفي الإيطالي (إيتالو كالفيني) فيقول: “لولا الترجمة لبقيت مقيداً في بلادي، المترجم حليفي الأهم لأنه يقدمني إلى العالم.” أما (غونتر غراس)، الأديب والروائي الألماني، فهو يرى في الترجمة “أنها ما يحوّل كل شيء حتى لا يتغير أي شيء..”.. يختتم (عبد الله) حديثه بقول للشاعرة البولونية (أجاثا توسزنيسكا): “المترجم هو أكثر قارئ ملاحظ.”
روح النصّ
أما الكاتبة السورية (دعد ديب) فتحدثت عن الترجمة بقولها: “للترجمة دور كبير في تجسير الثقافة بين شعوب العالم، ولعلنا قد نوفق في نقل وترجمة فكرة علمية أو نظرية ما تحوي معنى واحداً لا مجال للتأويل أو التخمين فيه، أما في المجال الأدبي فقد نستطيع نقل مضمون ما كمعنى وفكرة عامة من لغة إلى لغة أخرى، لكن من الصعوبة بمكان أن تنتقل روح النص وتحليقاته وتجلياته كما ارتسمت في وجدان كاتبها الأول، ولاسيما إذا ما تعلق الأمر بالنصوص الشعرية والنثريات الأدبية.” مشيرةً إلى “أن هذا الأمر يتوقف على براعة المترجم ودرجة إتقانه وتمثله للغة التي ينقل منها وإليها في ذات الوقت، لذلك نرى تتابع الترجمات المختلفة والمتواترة والمعادة تبعاً لرؤية كل مترجم.” مضيفةً: “فرباعيات الخيام تعاقبَ على ترجمتها كثيرون من الزهاوي إلى الصافي النجفي إلى أحمد رامي إلى الصراف، وللحق أن كلاً منهم أعطى نغماً خاصاً به للترجمة التي عمل عليها وحمّلها رأيه وروحه وثقافته. ولغاية اليوم تعاد ترجمة الأرض اليباب لـ (ت. س. إليوت) عن الإنكليزية بسبب رؤى جديدة كانت غافلة عن سابقيها. هذا بحد ذاته إقرار بعدم كمال الترجمات السابقة؛ أو لنقص ما يكتنفها؛ أو لخلل يعتريها؛ أو لنقل رؤية جديدة لم تلحظ سابقاً.”
وبيـّنت (ديب)، في حديثها، وجود بعض الترجمات المتميزة التي أسهمت في نقل نتاج سردي كامل إلى القارئ العربي، وخصّت بالذكر الجهد المميز للمترجم (صالح علماني)، الذي نقل روح ونبض الأدب الإسباني وأدب أميركا اللاتينية ببراعة منقطعة النظير، ومن خلاله تشربت أجيال بأكملها جمالية النصوص والأعمال التي نقلها إلى العربية، مضيفةً: “وفي بعض الأحيان تلعب الترجمة كرافعة للنص وانطلاقه، كما تردد عمن قرأ نسختي رواية (جوخة الحارثي) “سيدات القمر”، التي فازت بجائزة مان بوكر العالمية بأن الترجمة هي التي رفعت من شأن العمل، وأن هناك فروقاً كبيرة بين النسختين العربية والإنكليزية، لكن في النهاية فإن العمل المميز والمتقن يفرض حضوره الطاغي على الذائقة الثقافية والفكرية، وعلى امتداده في ذاكرة الأدب الإنساني.”
خصوصية اللغة
فيما يعتقد الشاعر (الدكتور هيثم الزبيدي): أن “في الترجمة هناك أمور سياقية وأخرى نصّية تتعلق بجمالية اللغة، كما أن هناك خصوصية في كل لغة تجعلها قريبة من الناطقين بها، وهناك أيضاً حميمية اللغة بين الكاتب والقراء، أو المتلقين، وهذه الحميمية لا يمكن المحافظة عليها عند الترجمة بسبب الاختلاف في الخصائص والسياقات الحضارية التي تختلف من بلد إلى آخر.”
أما بشأن سؤالنا عن إمكانية الترجمة من إضافة شيء إلى النصّ الأصلي أم لا، قال (الزبيدي): “لا، هي لا تضفي بل تأخذ من الأعمال الأدبية دون شك لأسباب كثيرة، في مقدمتها أن العمل المترجم عندما يجري انتقاؤه للترجمة، فلابد أن يكون عملاً استحق مكانته أو كسرَ حواجز معينة بلغته الأم، لذلك فإن القول إن الترجمة ستضفي عليه هو تجنٍّ عليه، إذ لا يمكن مثلاً قول أن جبرا ابراهيم جبرا قد أضفى على نصوص شكسبير، أو أن (الدروبي) اضفى على أعمال (دوستويفسكي) عندما ترجم أعماله.” مشيراً في ختام حديثه إلى “أن الترجمة قد تضفي في مقروءية العمل، وتضفي لشهرة الكاتب، لكنها لن تُجمّل نصاً، بل على العكس، لأنها ستأخذ من جمالية النص الأصلي.”
سلاحٌ ذو حدّين
في حين تحدث الشاعر (منذر عبد الحر) عن الترجمة بقوله: “ترجمة النص الأدبي هي سلاح ذو حدين، لأنها إذا نقلت فكرة النص، فإنها تغفل مقومات عديدة وهي مهمة حتماً، مثل الشكل الفني والأسلوب وطبيعة اللغة، وهي عوامل أساسية في أي عمل أدبي، أما إذا نقلت النص حرفياً، فإنها ستفقده روحه وبالتالي لا يحقق النص الأدبي هدفيه الفني والمضموني معاً.”
موضحاً “أن ترجمة الشعر، مثلاً، تجعله في أكثر الأحيان بلا هوية فنية، والسبب في ذلك -بحسبه- هو عدم القدرة على ترجمة إيقاع النص، ولاسيما عندما يكون موزوناً، فمن الصعب ترجمة القصيدة بتفعيلتها إلى اللغة الأخرى، وكم من الأشعار نقل إلى اللغة العربية بشكلها المنثور، بينما هي من القصائد الموزونة وفق أوزان اللغة التي نقلت منها. وربما تحتوي على ملمح غنائي من الصعب أن ينقل إلى لغتنا كما هو، لذلك فإننا نتلقاه بشكله الأخير البعيد جداً عنه في لغته الأم.” مضيفاً: “بعض المترجمين نقل النصوص الأجنبية بتصرف، فغدت نصوصاً عربية بأجواء غربية، مثل ترجمات (المنفلوطي)، فيما أدخل مترجمون آخرون مهاراتهم الكتابية وخبراتهم الأدبية على النصوص التي ترجموها، فبدت نصوصاً متقنة جميلة، مثل ترجمة الراحل سعدي يوسف لكتاب هنري ميلر عن الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، وهنا أضاف (سعدي) لجماليات النص الكثير، وحوّل ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى. يقول الشاعر محمود درويش إن ترجمة الشعر كتقبيل إمرأة من خلف الزجاج، وهو بهذا يقول إن هناك حاجزاً تصنعه الترجمة يمس روح النص.” مشيراً إلى “أن ترجمة النص العربي إلى اللغات الأجنبية يفقده هويته الفنية، ولاسيما مع الشعر الموزون الذي يعتمد في بنائه على تفعيلة البحور الفراهيدية، لذلك لا تبدو نصوص كبار شعرائنا المترجمة إلى لغات أخرى مؤثرة كتأثيرها في القارئ العربي، وعليه فإن الترجمة، قد تسهم في نقل المعلومات والأخبار والأحداث، لأنها وقائع لا تتطلب مهارات فنية في صياغاتها، لكنها لا تستطيع أن تنقل لنا الرؤية الفنية والجمالية الكاملة للنص الأدبي، وبالذات النصّ الشعري وهذا الأمر –بحسبه- أحدث إشكالات ومطبات، فقد تُرجمت بعض القصائد الأجنبية بفهم خاطئ من المترجم، وقد نقلها إلى القارئ العربي وفق فهمه الخاطئ لها، لتكون مسلّمة وتعطي المعنى المغاير لحقيقتها، وعلى هذا الأمر هناك أدلة كثيرة.”
أمانة النقل
وأوضح (عبد الحر) -في حديثه أيضاً- “أن الترجمة التي وصلتنا كانت على مستويات مختلفة: المستوى الأول هو الفائدة التي حصلنا عليها من نقل النصوص النظرية والكتابات النثرية التي لا تتطلب ضرورة في نقل الشكل الفني، والمستوى الثاني هي الترجمة التي نقلت لنا مصطلحات وعرفتنا على مدارس فنية وفكرية ونظريات واشتغالات معرفية مهمة، وعرفتنا على أسماء لها ثقلها العالمي، أما المستوى الثالث فهو مستوى الترجمة التجارية العابثة بالنصّ، والتي لم يكن أصحابها ذوي كفاءة، ولم يؤدوا أمانة النقل فشوهوا النص بشكليه الأصلي والمترجم.”
ويؤكد عبد الحر : “لكن، وفي كل الأحوال، تبقى للترجمة أهمية كبيرة في توفير فرصة الإطلالة على الثقافات والتجارب المكتوبة بلغات أخرى.”