علي محمود خضير: للشعر قرّاء وللرواية جمهور

698

حوار : علي السومري 

هو أحد الأصوات الشعرية البارزة في البصرة، ولد عام 1983 في بغداد، وعاش متنقلاً ما بين العاصمة وعلي الغربي والبصرة التي استقر فيها، أصدر تسعة كتب تنوّعت بين الشعر والنثر والتحقيق الأدبي، منها تحقيقه لأعمال الشاعر اللبناني بسام حجار الكاملة، ومختارات من شعر فوزي كريم في كتاب صوتي، أما آخرها فكان تحقيقه للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب في مجلدين بأكثر من ألف صفحة، وترجمت بعض أعماله إلى أكثر من لغة.
شارك في غالبية المهرجانات الشعرية، كما أسهم محكّماً في لجان تحكيم لجوائز داخل وخارج العراق، يعمل في تحرير مجلة (الأقلام)، ويقدم للإذاعة برنامجين في الأدب والتاريخ، فضلاً عن نشاطه في كتابة المقالات في صحف ومجلات عربية وعراقية. “الشبكة” التقت الشاعر والكاتب والمحرر الثقافي علي محمود خضير فكان هذا الحوار..
* يقال إن الشعر في العراق اليوم يمر بأزمة، وهي هيمنة السرد عليه، ما رأيك؟
– أزمة الشعر لا تقتصر على العراق، هو في أزمة في العالم كلّه، والأسباب كثيرة، من بينها تبدّل طبيعة عصرنا الذي نعيشه، وهو عصر ماديّ، غرائزي، لا يكترث إلى الجانب الروحي للأشياء، نظرةً وتعاملاً، عصر ينظر إلى الأدب على أنه ترفيه وتسلية، وبعض من الرواية يحقق هذا الاشتراط، وأعني التسلية والمعلومة، كما أنها (الرواية) تستوعب (قضايا) العصر بشكل أسلس. السرد أمر آخر لأنه يشمل القصة والمقالة والتأمّل والشذرات وغيرها، هل على الشعر أن يكترث لتلك الأزمة؟ لا أظن، الفنون الكتابية ليست في حرب فيما بينها، على الأقل بالنسبة لي، كما أن الشعر يتألق في الانشغالات الفردية للإنسان، ويضعف حين يقارب الشؤون (الجماعية)، ولهذا هو في انحسار (محمود)، للشعر قرّاء، وللرواية جمهور.
الجوائز الشعرية
*كيف تقيّم الشعرية العراقية، وهل أثرت سهولة الطبع والنشر، أو مواقع التواصل الاجتماعي، على ما يكتب فيه؟
-الشعر العراقيّ يتألّق في مناطق الظلال. بعيداً عن منصات المهرجانات ومباريات الجوائز، لأنهما برأيي أسهما بشكل كبير في تحييد جهد التحديث في التجربة الشعريّة العراقيّة، فلم نعد نلمس في السنوات الأخيرة دأباً تجديدياً على نحو ملموس. بات التفكير، اليوم، في القيمة المادية للجائزة الفلانية، والتي تملي عادةً شروطاً صارمةً على النص الشعري تستبعد أي منحى جديد فيه، بعيداً عن المتن تتلألأ في الهوامش شعرية عراقية جادّة ومسؤولة، يغفلها النقد ولا يعثر عليها الإعلام.
أما تأثير مواقع التواصل الاجتماعي فهو تأثير سلبي، لأنها فرضت أعرافاً جديدة، أنت تنشر بشكل مباشر، فلا محررين ولا مدققين ولا ضوابط ولا معايير، وبالتالي، فلا نص أحياناً! الكل اليوم صاروا كتّاباً، ولا بأس في ذلك، فالجميع من حقه أن يكتب، غير أن هذا الواقع خلق فوضى كبيرة وتشويشاً مرعباً على القرّاء الذين سيهدرون سنوات طوالاً حتى يقعوا على الأدب (الأصيل).
في السابق شكّلت المجلات والصحف مصفاة تسقط منها التجارب المباشرة والعادية، تلك التي صارت تتصدّر اليوم المشهد بقوة النشر الممول وسلطة (اللايك) و(التعليق) وباقي القوانين الملتبسة لبيئة مواقع التواصل. الحرية التي منحها الإنترنت للأدب مهمة وعلينا جميعاً الدفاع عنها، لكن كلفتها باهظة جداً، وخرابها واضح على صعيدي الكم والنوع اللذين جاءتنا بهما. لكن دعني هنا أشيد بحركة النشر العراقية التي تعززت في السنوات الأخيرة، فصارت عندنا دور أهلية شابة تقدم كتباً تنافس، بل تتفوق على الكثير من دور النشر العربية وتستعيد مكانة العراق في سوق الكتاب العربي.
التحدي الحقيقي
*ما الذي أغراك بإعادة جمع وتحقيق قصائد السياب؟ وما جديد هذا الكتاب الذي قدم له الشاعر أدونيس؟
-الفكرة تعود إلى الناشرين الصديقين محمد هادي ومحمد العتابي، كانت الفكرة جمع قصائد السياب المنشورة وإعادة تدقيقها وتقديمها بطباعة عصرية فاخرة، غير أنني درستُ إمكانية إضافة شيء جديد لتراث هذا المعلم الفذ، وكان هذا هو التحدي الحقيقي لي، وقد نجحت -في رأيي- إلى حد لم أتوقعه، فالطبعة الجديدة تضم جمعاً وتحقيقاً متمهلاً لشعر السياب مع هوامش موسعة عن القصائد وظروف كتابتها والتعديلات التي أجريت عليها، فضلاً عن تصويب المئات من الأخطاء التي وقعت فيها الطبعات السابقة الشهيرة لديوان السياب، وقد صححتها استناداً إلى المخطوطات الأصلية التي زودني بها –متكرماً- الصديق غيلان السياب، نجل الشاعر الراحل، كما تضم مقدمة كتبها الشاعر أدونيس بشكل خاص لهذه الطبعة الجديدة.
أهـــــــــــم ماجاءت به الطبعة هي القصائد الجديدة التي اكتشفناها أثناء العمل على أوراق ودفاتر الشاعر، التي تنشر لأوّل مرّة، فضلاً عن صور ووثائق ومراسلات مهمة تنشر لأول مرة تُصحح أخطاءً تاريخيّة وقعت بحق الشاعر، فهل تصدّق، مثلاً، أن يوم مولد الشاعر (25 كانون الأوّل)، المتداول والمشهور في المراجع والدراسات منذ عقود، هو تاريخ غير صحيح بالمرة، وقد أثبتُّ ذلك بوثائق مرفقة مع الطبعة، المفاجأة الأكبر أن سنة ميلاد السياب هي 1927 وليست 1926! كما هو شائع في المصادر كلها، وأدعو هنا جميع المهتمين بحياة الشاعر والمسؤولين على مناهجنا التعليمية للالتفات إلى هذه المعلومة. أخلص إلى أننا بحاجة ماسّة إلى إعادة تحقيق ودراسة موروثنا الشعري المعاصر وتوثيقه على نحو جاد قبل أن تضيع جواهره في هاوية النسيان.

الذاكرة والخيال
*ديوانك الأخير حمل اسماً غريباً: (باذبين)، ماذا تعني بالتسمية؟ وما خصوصية هذا الديوان؟
-(باذبين) كلمة من مقطعين، هي (باذ) وتعني تل، و(بين) وتعني البيادر، وهي اسم لمدينة عراقية قديمة هي الآن قضاء علي الغربي في ميسان، وقد عشت فيها شطراً من طفولتي، حيث كان والدي يعمل هناك معاوناً وقائياً منتقلاً من البصرة. الكتاب باختصار هو نشيد حب في استعادة الطفولة والمدن الصغيرة التي يغفلها الأدب عادة ليمجد العواصم والمدن الكبرى، هو محاولة لمزج الشعر بما يُشبهه في لعبة بين الذاكرة والخيال تمارس فيها المرأة البطولة المطلقة. حاولت أيضاً لفت النظر إلى قضايا متعددة في الكتاب منها: الطبيعة، الموروث الأسطوري، تهجير الأقليات، اضطهاد الغجر. يمكن لمكان صغير ومحدود أن يشكل عالماً مكتفياً بذاته بشكل متفرد ولا نهائي.
*لنتحدث عن عملك الإذاعي، في السنوات الأخيرة قدمت فيه برنامجين، ما الذي دفعك إلى دخول هذه التجربة، وماذا أضافت لك؟
-أحببتُ الراديو منذ الصغر، كنتُ مولعاً بإذاعة بغداد وأنا دون العاشرة، وقد أسهم الإصغاء لبرامجها في صياغة جانب من اهتماماتي، ولاسيما الفنية منها، من الطريف أنني أسست، في ذلك العمر، في بيت العائلة، إذاعة محلية كنت فيها المعد والمذيع والمخرج والمستمع الوحيد!
أظن أن للشعر والإذاعة جوانب تشابه عديدة، فكما يُرسل الشاعر، في عزلته، ذبذبات كلمات قصائده إلى قارئ لا يراه ولم يسمع به، لكنه يتخيله، فالمذيع كذلك، يرسل من بين جدران خلوته، في الأستوديو، إشارات ونداءات تواصل مع آخر لم يره ولا سبيل إلى لقائه. ثمة حميمية في هذا التراسل الغامض والتواصل الأثيريّ أجدني منجذباً اليه، ولا أظن الراديو خسر المعركة بالكامل أمام الميديا المرئية، قد يكون تراجع رواجه من القواسم المشتركة بين الشعر والميكروفون! أقدّم -منذ خمس سنوات- برنامجين إذاعيين هما: (مجاز) ويعنى بالأدب والفكر والثقافة، ولكن بأسلوب أزعم أنه مختلف، لأنه يقرب ويبسط المفاهيم الأدبية ويضعها في متناول الجميع، مع تركيز على مقاربة الهم الثقافيّ من الممارسة السلوكية الاجتماعية، وطرح الأسئلة الجوهرية على واقعنا بإطار قريب من العامّة. البرنامج الثاني (القصة خون) ويعنى بتاريخ مدينة البصرة، وقدمنا فيه إلى الآن أكثر من مئتي ساعة تشكل موسوعة لم تغادر صغيرة وكبيرة من تاريخ وتراث البصرة قديماً وحديثاً بإطار سردي يستعيد شخصية الحكواتي. الإذاعة عالم مدهش وسيستمر، وما رواج (البودكاست) إلا اعتراف بقيمة المحتوى الصوتي وعودته من جديد إلى الواجهة.
ما جديد علي محمود خضير؟ *
-أحاول التفرغ لإكمال كتابٍ شعريّ يتخذ من الحبّ نظاماً يتلاقى فيه الشعر بالخطاطة السرديّة وفق اقتراحات جديدة، ربمّا! العالم من حولنا يتوعدنا كل دقيقة، ولا ملجأ من شرّه سوى بالحبّ، ولكن أيّ حب؟!