الكآبة الثلجيّة عقدة شرقية أم اضطرابات هرمونية؟!
آمنة عبد النبي-السويد
كيف يمكن لنتف البياض الرقيقة أن تخنق الأنفاس المهاجرة وتهيّج في داخلها الحنين العتيق، وحينما يحتضن الثلج كل شيء وتتحول البحيرات إلى لوحاتٍ زجاجية مبهجة، لماذا تتراكم المشاعرُ الغائمة في الصدور وتهطل بعد ذلك حزناً وهماً وكآبة؟
وما حكايةُ الكلب الودود الذي يختار الأوروبيون التنزه برفقتهِ هرباً من نهاراتِ الثلوج وقسوةِ غروبها، وهل حقاً أن الغياب المكثف لضفائرِ الشمسِ الذهبية هو أحد مغذيات ثقافة الانتحارِ في دول اسكندنافيا، علماً بأنَّ الأرواح الشرقية -في العادةِ- تُشرق وتنطفئ حينما يغادرها ضياء الأحبّة.. لا الكواكب.
جذور وجنون
“ولأننيّ جنوبية الهوى، فإني أعشق الشمس مرتين، وأمقت الثلج وظلامه أكثر، فنحن عُشاق الشمس وبدونها مغتربون لا حياة تنبض فينا..”
بهذا النشيج الهادر، قصت لنا جنان الهاشمي من ألمانيا، حكاية عشقها الأبدي مع الشمس العراقية، قائلة:
“طوال حياتي وأنا اكره الغروب وأكداس الثلج البيضاء التي كان الجميع يحلمون برؤيتها، وعلى عكس من يتغزلون بها ويتمنون نزولها، لأنني أعتقد بنهاية الأشياء حينما يتم تغليفها بالكآبة البيضاء، شاءت الأقدار أن أهاجر إلى الغرب، وبالتحديد ألمانيا، التي يُلقب جوها بالمجنون، ولا أنكر أنني في بداية الأمر سعدتُ كثيراً برؤية تساقط الثلج، وكيف يكسو البياض كل شيء فيتحول إلى لوحة تبعث البهجة بالنفس وتريحها، لكن بمرور الأيام أصبح المنظر الثلجي عبئاً عليّ لما يصاحبه من تأثيرات وحوادث، ولاسيما بالنسبة لامرأة عاملة يتطلب منها التحضير للخروج إلى العمل ساعة إضافية، فضلاً عن تنظيف السيارة من تراكم الثلج والسياقة المتأنية، لذلك، مع الوقت، ماعاد الثلج يبهجني، ولاسيما بغيابٍ تام للشمس، بل أصبح منظره، ولاسيما في ساعات الغروب، يخنق أنفاسي ويهيج فيّ الحنين لبلادي، ذلك المأزق النفسي وكآبته عشت معهما كثيراً ومراراً، ولولا إرادتي التي وظفتها في العمل المستمر والرياضة وفيتامين (D) لكنت الآن أتعالج في أحد المستشفيات، كما هو حال الكثير من الألمان الذين أدمنوا معاشرة الكلاب والتنزه معهم هروباً من تلك الكآبة المناخية القسرية.”
ضيف وبهجة
“ما إن فتحت باب المنزل صباحاً، حتى صُدمت فرحاً وأنا اشاهد كرات الثلج تتساقط وتغطي شوارعنا، فعدت إلى الداخل مباشرة، أصرخ بصوت عالٍ لإيقاظ الأطفال”..
هكذا وثق الكاتب محمد جميل لحظات هطول الثلج في بغداد بعد مضيّ عشرات السنين على افتقاده، قائلاً بسعادة:
“حينما سقطت نتف الثلج على بغداد في السنة الماضية، وثقت بكامرتي هذا الحدث البارز بوضوح، كانت فرحة الناس تشبه كرنفالاً مناخياً بهيجاً، الجميع تمنى بقاءه إلى الأبد، لأن الأشياء تعرف بأضدادها، وأحد أهم أسباب بغض الثلوج لدى سكان العالم الأوروبي، هو الافتقار المكثف للشمس، لكني كعراقي ولأنني مُتشبع بالشمس والأجواء الحارة، أتوق حتماً لرؤية الثلج والغيوم، علماً بأنني مدرك جيداً أن الثلج، ومايصاحبه من جو غائم يبعث على الكآبة فعلاً، لأنه بالضد من الشمس التي تبعث الضوء والحياة والحيوية، إضافة لذلك، علمياً، فإن الشمس يحتاجها الإنسان لكل تفاصيل جسده، لكي لا يذوي ويتكاسل ويخمل، والذين يتقبلون حياتهم في أوروبا بدون شمس إنما يتقبلونها على مضض، يعني لو أتيحت لهم فرصة الانتقال إلى بلاد فيها الشمس مع الإبقاء على امتيازاتهم وهوياتهم لذهبوا، بدليل قضائهم أوقات السياحة في إفريقيا ومصر والبلدان المشمسة.”
فارق ثقافي
“الحياة بلا شمس ليست مستحيلة، نحن من نصنع شروق أرواحنا وغروبها الخانق، الشموس تشرق وتنطفئ في دواخلنا، ولا علاقة لتلول الثلج البهيجة بكل هذا التوهان”..
فارق ثقافي كئيب لا علاقة له بالثلج، هو خلاصة رأي الباحثة الاجتماعية المُقيمة في السويد ايمان عطا الله.. قائلة:
“هنالك ثقافة مناخية يكتسبها الإنسان بمرور الوقت، الأوروبيون تعايشوا معها وتصالحوا مع تقلباتها، لذلك تجدهم ينتظرون أعياد الميلاد بفارغ الصبر ولا يكتمل (الكريسماس) إلاّ بمظاهر الثلج وبابا نوئيل المتدثر بالفرو والعربة، لأن لكل فصلٍ مذاق خاص، هم يستمتعون بالثلج كثيراً، والدليل في إحدى السنوات عندما تأخر نزوله فحزنوا، إضافة إلى كونه مفيداً صحياً في طرد البكتريا وتنظيف الجو، رغم أن الكثير منهم يختار عطلته السنوية في الفصول المثلجة، أما نحنُ فما زلنا نجعل من كل فارقٍ مناخي او ثقافي او اجتماعي، كآبة وضيقة نفس، مع العلم أن بلادنا التي غادرناها كانت تعاني الأمرين من الشمس الحارقة والمرضية، وكذلك اختلال الكهرباء لدرجة التذمر من كل شيء، والتحسر على نتف الثلج، ورغم ذلك أستغرب حينما يشتكي أحدنا هنا من كآبة الثلج او غياب الشمس، وهو بالأمس فرّ هارباً من لهيب بلاده وجوها الحارق، إذن، القضية ثقافية ومنفذ شرقي لاستجلاب الهموم والكآبة لا أكثر”.
هرمونات وخمول
“قلة التعرض لضوء النهار تسهم في زيادة إفراز هرمون الميلاتونين الذي يؤدي إلى الشعور بالتعب والخمول والكآبة”..
حقائق هرمونية خصتنا بها من هولندا، المعالجة النفسية بشرى الطائي.. قائلة:
“لا علاقة للأمر بالتطبع المناخي ولا بالتصالح الثقافي، هي مشاعر غائمة تتراكم في ذات الإنسان وتسبب له البلادة، واستمرارها او عدم تبديدها يؤديان إلى الإصابة باكتئاب حقيقي يستلزم الخضوع للعلاج النفسي، لذلك فإن الشعب الهولندي يُنهك نفسه بالعمل طوال أيام الأسبوع لكي لا يترك مجالاً لنفاذ الكآبة الثلجية، وفي نهاية الأسبوع يطلق العنان لنفسه بالإفراط في المشروبات الروحية والمتعة الجسدية هرباً من الضغط المتواصل طوال الأسبوع، العملية باختصار تُشبه تغييب العقل والجسد الذي يتوقف عن العمل وإنهاك أعضاءه، لكي لا يفكر بما يحيطه من كآبة وفراغ، حتى أن الحكومة الهولندية تقوم بعروض خاصة للمشروبات في أيام العطل إسناداً لتلك الفكرة، أنا أعرف مدينة ثلجية يتصدر سكانها حالات الانتحار، لأنهم لا يميزون ما بين نهارها وغروبها بسبب تراكم الثلوج والسماء الغائمة والشمس الغائبة تماماً، وهو ما تسبب لهم باختلالِ في توازن الهرمونات.”