الذهب.. ذلك الساحر الصامت

606

إياد السعيد /

يقول الصائغ المخضرم في بغداد سعد حميد: “إذا أردت أن ترى مشهد التطرّف في المشاعر فعليك بالتجول في شارع لصاغة الذهب، فستشاهد النساء بين سعيدة جداً وأخرى حزينة جداً، وهذا الفرق هو بين من تشتري الذهب مرفّهة أو لزواجها، وبين من تبيعه لحاجة شديدة وخانقة، فلا توجد بينهما حالة وسطية من الاعتدال.
وقد شهد هذا الشارع حالات عديدة طوال أربعين سنة من عملي هنا يمكن وصفها بالتراجيديا، وقد تكون نشوة عظيمة تفرح فيها لفرح المرأة المتبضعة، وهنا تبرز السعادة الغامرة للنساء، فمجرد التجول والتفرج على المصوغات والمجوهرات يُسعد النساء.”
للمرأة العراقية زينة وخزينة ..
رغبة منا في تأكيد صحة مقولة الرجل، سألنا الحاجة أم صباح، وهي تتبضع بما يعادل خمسة ملايين دينار من المصوغات لابنتها، عن مشاعرها في هذه اللحظات فقالت: “ليست مشاعري أنا، بل مشاعر ابنتي التي ستتزوج، وهذا هو زينتها وخزينتها للمستقبل، فهو أضمن من النقود، وأيضا يزيد جمالها ويعينها عند الحاجة القصوى لا سمح الله.”
انتبهنا إلى عبارة (الحاجة القصوى) التي قالتها بالدارج (مضطرة كلش) لماذا؟ فردّت البنت المخطوبة زوجة المستقبل: “طبعا بالضرورة القصوى لأن الذهب لا يباع إلا بعد استنفاد كل الممتلكات الخاصة، لأنه الضمان الحقيقي ليكون آخر الحلول !!”
البعض يفضل القديم
في زاوية أخرى سمعنا تهامساً بين رجل مع زوجته، وبعد الاستئذان سألناه: “تشتري أم تبيع؟” فردّ: “لا فقط نستبدل القديم بموديل جديد وسندفع فرقاً متذبذباً بين بائع وآخر، مع أنني أفضل القديم، فهو أجمل، وربما أضمن من حيث ندرة الشوائب، عكس ما موجود الآن في السوق.” طرحنا تساؤلنا (اللحظوي) على السيدة زوجته عن معنى ما يقول عن الشوائب وهل يهمها ذلك فأجابت: “لا أظن أنها مؤثرة، وإن كانت فجمال ورونق الجديد يطغى على هذا الفرق، وذلك لا يهمني لأني لن أتاجر به بل لارتدائه في المناسبات، وهذه حالنا -نحن النساء- مثلما الرجال يختارون لبس الساعة والخاتم الثمين والجميل.”
الحفاظ على المال
في يوم آخر جذبني مشهد مميز لعائلة صغيرة تشتري لابنتها (بعمر عشر سنوات تقريباً) مجموعة من الحلي، فطرحت تساؤلاً على والدها: لماذا؟ فقال: “لكي نعلّمها كيف تحافظ على مالها في المستقبل فتبتعد عن التبذير في اقتناء البضائع الاستهلاكية كالموبايلات والملابس بموديلاتها، بما معناه أننا نريد ترغيبها وتعويدها ونحبب لها هذه الهواية التي ستلازمها لحين تكوينها أسرة -مثل أبويها- إذ لم نمد أيدينا لطلب المساعدة من أحد ولا حتى الاقتراض وفي أحلك الظروف!!” فكرة جيدة بصراحة، لكن هل أن هذا الوعي الاقتصادي موجود لدى كل أفراد المجتمع المتمكن مادياً؟ سنطّلع على بعض الردود :
علي وارد أبو همسة: “ومن قال إن الذهب سيبقى سيد المعادلة في المستقبل، فقد يظهر معدن مصنّع يزيح الذهب عن الصدارة مثلما ظهر النفط الصخري الآن.”
ساجدة -أم سما- وهي ضاحكة: “انا ضد ترغيب الطفلة بالذهب لأنه مرض.”
الحاجة أم زكي: نعم درّبت كل بناتي على اقتناء الذهب بكل ما يجمعنَ من مال، سواء الموظفة أم ربة البيت لأنه يحصنها عندما تكبر، وها انا مرتاحة ماديا لأني أملك مصوغات بمبلغ ممتاز .فطرة أم وعي اقتصادي
خزين الذهب
لو عرّجنا على معرفة أهمية الذهب في الاقتصاد العالمي لعرفناه من خلال شراء الصين والهند وروسيا آلاف الأطنان منه لتكرار تجربة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، حين اشترت من الذهب ما يغطي كل عملتها، لذلك تسيّد الدولار العملات العالمية حتى عام 1971 حين وقف الدولار صامداً وأصبح يتعامل بقاعدة العرض والطلب لحد الآن، أما العراق فيمتلك اليوم أكثر من 96 طناً من الذهب ما يضعه في المرتبة 38 بين دول العالم في احتياطي الذهب، وهناك دول اشترت من الذهب ما عزز عملتها، على عكس دول باعت من خزينها فانخفضت قيمة عملتها.. هذا يجرّنا الى التفكير بوعي المرأة العراقية بأهمية اقتناء الذهب، فهو لم يأت من فراغ بل إنه زينة وخزينة فعلاً واقتصاد الأسرة هو نواة لاقتصاد الدولة، وليس غريبا على المرأة العراقية -آنسة او سيدة- أن تقتني الذهب بمجوهراته وأشكاله ومناشئه، فتاريخ العراق، قبل الميلاد وبعده، ثم قيام الدولة العباسية، شهد ظاهرة مستمرة عن اهتمام المرأة باقتناء وارتداء الذهب لأنه يعبر عن الحالة المعيشية إذ يضيف لها جمالاً آخر .
لم يقتصر إعجاب ورغبة المرأة العراقية بالذهب على اقتنائه، بل مارس البعض منهن العمل في تجارته بين النساء بين بيع وشراء واستبدال، كمهنة مربحة، وأيضا ثمة من امتهنت صياغته مثل الشابة باداشت من أربيل التي تعمل في محلها بصياغة ونقش وقولبة الذهب بحلي جميلة وحسب الموديلات المرغوبة في السوق، ولكن تبقى قضية اقتنائه هي الشاغل الأكبر للمرأة العراقية، حال كل النساء، والشرقيات خاصة، وقد ينطق خزين المرأة من الذهب يوما عند حاجتها الماسة أو مرورها بضيق ليقول لها: “ها أنذا سأحل ضائقتكِ!!”