فيلم THE BEST OFFER “أفضل عرض”.. “هناك دائماً شيء حقيقي في كل عمل مزيّف”
فدوى العبود /
في كتابه “قصة الحضارة”، أورد المؤرخ الأميركي ويل ديورانت حكاية تختصر (جوهر الفن): أعلن ملك يوناني عن جائزة لأفضل رسم، وأوضح مقصده المتعلق باختبار قدرة اللوحة على تقليد الحياة. وكان أن تنافست لوحات كثيرة، لم تصمد منها سوى اثنتين. تمثل الأولى عنقود عنب، كانت متقنة الى درجة جعلت العصافير تنقرها لشدة شبهها بالأصل؛ وحين طُلب من الرسام الآخر إزاحـــَةَ السِتارة تلكأ؛ ما أثار حنق الملك الذي اكتشف في النهاية أن اللوحة ليست سوى محاكاة دقيقة للستارة.
يـــُختَصَر تاريخ الفن في هذه الشَعرة، أو الخيط الرهيف بين الحقيقي والمزيف، بين الأصل والصورة، بين الحياة والكتابة، ولكن ماذا عن المشاعر. هل يمكن تزييفها؟
لعلّ هذا السؤال، وهو سؤال مركب، ليس سوى الشق الأول من سلسلة تتوالد تلقائياً عنه. فهل يمكن للعزلة أن تحمينا، وهل تستطيع البدائل وأشكال التعويضات التي يقدمها الفن أن تعوِّض عن الحرمانات التي تسببت بها الحياة الحقيقية النابضة؟
هذا التساؤل وغيره هو ما يطرحه فيلم “أفضل عرض- 2013”.
قصة وسيناريو وإخراج الإيطالي جوزيبي تورناتوري، الذي يواصل في هذا العمل ســـبرَ أعماق الذات البشرية المركبة والمربكة في تناقضاتها بين قسوتها وهشاشتها المفرطة، توقها ومخاوفها، جموحها وانغلاقها.
كما أن طرح السؤال، لا يعني ضرورة الإجابةَ عليه، فالأجوبة –كما يعرف الجميع-توق أخرق في قلب الأسئلة؛ ومع أن كل محاولة في هذا الاتجاه ليست سوى جهد نبيل. لكن، ألا ينطوي النبـــل على بعض الحماقة؟ (نتذكر في هذا الخصوص مغامرة الفارس دون كيخوت).
براعة فنية
لا يفرض الفيلم، المنسوج بمهارة وبراعة فنية وعناية دقيقة بالتفاصيل -الذي أمتعنا بكادرات غاية في الروعة-أيّة أجوبة على مخيـــِّلة المتلقي، بل يزجّه في محنة البطل أو الشخصية الرئيسة التي لعب دورها الفنان الاسترالي (جيفري راش) في دور فيرجل أولدمان.
فالأخير يعمل بائع تحف محترفاً، وهو شخصية مركبة ومربكة وانعزاليـــــــّة، شغوف باللوحات الأصليــــــّة لنساء في أوضاع الحياة كافة ؛ متجنباً المرأة الحقيــقيـــــّة من لحم ودم، رافضاً لمسَ أيِّ كائن بارتدائه للقفازات وعدم اختلاطه إلا فيما يخص مهنته.
كما يطرح العمل، الذي شكل تحفــــةً بصريــــــّة، أسئلة إضافية على هامش العزلة والوحدة والتزييف، كالقدرة على حماية الذات من مفاجآت الحياة. وستجيب تحولاّت الشخصيــــّة في العمل الذي امتد لساعتين؛ وعبر التناقضات المعقدة بين الرفض والخوف، ثم الانجراف في المغامرة والخسارة، على هذه التساؤلات.
تبدو قصة الحب مجرد طعم استخدمه المخرج تورناتوري ليطرح فكرة العلاقة المعقدة بين المزيف والحقيقي؛ ولعل هذا الهاجس، الذي شغل الفلسفة منذ أفلاطون حتى ديكارت وشكّه بالحواس، هو ما يشغل الفن.
لكن، فيما يخص الحياة، يذهب العمل نحو سؤال أعمق: فهل يمكن تزوير المشاعر؟
إن فيرجيل، خبير التحف، يقنع العملاء بأن اللوحات التي يقتنونها نادرة، لكنه في الحقيقة يبيعهم المزيفة ويحتفظ لنفسه، بالتعاون مع مساعده بيلي -الذي أدى دوره الممثل دونالد ساذرلاند-بالأصلية، وهو يخفي اللوحات في غرفة سريــــــّة؛ سنكتشف لاحقاً أنها مجرد تعويض كبير عن نقص المرأة في حياته، وهنا يبدو الفن كبديل؛ وأن الأمان الذي يوفره الأخير قد يكون ترفـــــاً لا تهبــــُه لنا الحياة، لكن تناسي المغامرة لا يعني نسيانها، وتجاهل الحياة لا يضمن أن تتجاهلنا الأخيرة.
يستيقظ شعور المغامرة لدي فيرجيل الذي كان يعتقد أن التحدث إلى الناس أمر خطير، فتبدأ التحولات في هذه الشخصيّة، التي حرصت أن تنأى عن الآخرين وتبعدهم عن دائرة وجودها، ليلة ميلاده حين يـتلقى اتصالاً من كلير (التي لعبت دورها الممثلة الهولندية سيلفيا هويكس)؛ لتقييم التحف والآثار التي تركها لها والداها، ويتم التلاعب بها لحظة تأخرها عن موعدهما لتتوالى سلسلة من الأعذار والبكاء من الشابة البالغة من العمر 27 عاماً، التي تحبس نفسها في غرفة مصابة بمتلازمة الرهاب من الخارج.
احتيال كبير
في الحب نـــُدخل الآخرين إلى غرفنا العميقة، وهناك خياران أمامهم، فإما نهبُ هذه الغرفة أو إقفال الباب علينا إلى الأبد.
إن ما يتعرض له فيرجل هو احتيال كبير، لقد استخدم مساعده بيلي فرقة سينمائية كاملة بحيث زيفوا كل ما حوله، (ذلك شبيه بأن نحدث مطراً اصطناعياً من خلال برق ورعد مصطنعين)، لقد تم التلاعب به من فريق كامل بجعله يقع في حب الشابة التي تشبهه في عزلتها وتعقيد سلوكها؛ إنها صورته التي أحبها، التي أراد إنقاذها من مرضها الذي هو ذاته مرضه، وإن كان أقل حدة في حالته. إلى أن نصل الى لحظة التحرر حين يتوهم أنه أنقذها، فيدخلها إلى بيته لتشاركه حياته. وهنا يكشف لها عن غرفته السرية، التي تحوي تحفاً ولوحات جمعها طيلة حياته، التي تختفي أثناء ذهابه في رحلته الأخيرة لإقامة آخر مزاد.
تتبخر حبيبته (المرأة الحقيقية) ولوحاته (النساء المصنوعات من الألوان) ونجده ضحية احتيال كبير. فهل أحبته المرأة وسط هذه المسرحية، هل كان هناك شيء حقيقي؟ هذا ما يبحث عنه فيرجيل في تذكره لكل تفصيله.
إنه، وهو خبير اللوحات، كان يقول: “في كل عمل يخون المزور نفسه ويكشف شيئاً خاصاً من أحاسيسه،” هذه العبارة ستجعل فيرجيل غير مصدق أن ما كان بينهما ليس حباً.
في حوار بين فيرجل ومساعده يسأل الأول عما إذا كان يمكن تزييف الشعور بالحب.
يجيب الأخير: “بحسب ما علمت، فإن تزوير الأعمال الفنيـــــّة يمكن أن يكون كاملاً، والحب عمل فني.”
بعد خسارته ينهار فيرجل وتختفي اللوحات كما تختفي حبيبته، ويدرك أن بعض الحقائق كانت أمام عينيه لكنه لم ينتبه لها، أو أنه لم يرغب برؤيتها.
لعل ما يلفت النظر هنا أن اسم فيرجل يتضمن إحالة دلاليّة الى الشاعر الروماني فيرجيل بوبليوس مارون. وثمة مفارقتان مهمتان: إن فيرجل مخترع الأنياذة لديه هوس الكمال، وهو الهوس الذي يعاني منه بطل الفيلم، فامتناعه عن المرأة لم يكن سببه الخوف والرهبة وحسب، بل الرغبة بامرأة كاملة (وهذا ما حرص المحتالون على تقديمه له: نموذج يشبهه، امرأة متوحدة، صورته طبق الأصل).
لقد رغب فيرجل بطل “أفضل عرض” أن تكون حياته كاملة بدون خدوش، لذا فقد أحاطها بعدم الثقة، وبالحذر والعزلة، لكن ما حدث هو العكس تماماً.
حكمة الحب والحياة
ثمة رسائل كثيرة قُدِمت بفنيّة عاليــــــة في هذا العمل، ليس أولها أن الحب، ورغم أنه أعظم ما يعيشه الإنسان، فإنه عمىً مؤقت مرغوب لذاته، وقد يبلبل الحياة، ويمكن اختصار حكمة الحب والحياة في قول بيلي: “إذا تورطت في الحب ستخسر حسّك الستراتيجي في الحياة.”
وليس آخرها أن هناك غرفة سريــــّة للذات، وربما تكون لوحات فيرجيل الثمينة هي مجاز عن الغرفة الخاصة بنا، الغرفة التي لا يجب أن يدخلها أحد حتى لا نخسرها.
لكن تورناتوري، في مجمل أعماله، يطرح إمكانية البدء من جديد، ما يجعل فيرجل يؤمن بعودة كلير ويقصد المقهى الذي قد يجدها فيه وينتظرها هناك، فيكون الحب هو الشيء الحقيقي في وسط هذه المسرحية التي مُثلت عليه. ربما خسر لوحاته، لكنه اكتشف الجانب الحقيقي للحياة حيث الانتظار واليأس والرغبة، وهي المشاعر التي تمكن من اختبارها بعد عزلة طويلة، ربما فقد اللوحات لكنه استعاد حسه بالحياة. نقول ربما.
يترك تورناتوري نافذة على الألم والأمل مجتمعين؛ وفي النهاية ثمة سؤال موجه للمشاهد وللقارئ:
ماذا عن الميل الذي يجعل الإنسان يعرض عن الحقيقي ويرغب في المزيف، (وسائل التواصل مثلاً بديلاً عن الحياة).
في حوار أحد الصحفيين مع المزور الألماني الرسام وولفغانغ بلتراتشي سأله الصحفي عما إذا كان ما يقوم به جريمة؟
فكان جوابه: أعتقد أن المشترين كانوا يعلمون أن تلك اللوحات مزورة.
إن الإنسان يرى ما يريد رؤيته، أو كما قيل فالإدراك في المجال الإنساني أهم من الواقع، لذا فإن فيرجل سيستعيد في إدراك متأخر الأشياء التي مرت أمام عينيه ويمكن الانتباه لها لينقذ نفسه، ولم يرغب برؤيتها، وهو الذي كان فطناً بعينه المجهرية لأقل تفصيل. لقد مرت المشاهد المزيفة والحركات أمامه ولم يرغب، وربما لم يستطع، معرفة الفارق بين الأصل والصورة بين الحقيقي والمصنوع. ربما لأن الفارق بينهما واهٍ حد صعوبة التمييز حتى على أنفسنا.
في المعرض الذي أقامه المعهد الوطني في لندن، حرص المسؤولون في المعرض على وضع اللوحات لأصلـــــّية ومثيلتها المزورة جنباً إلى جنب وقد كتب تحتهما: “هاتان اللوحتان متشابهتان جداً، إلى حدِّ التطابق، هل يمكنك ملاحظة الفرق؟”