تحية متأخرة لملحن عظيم..طالب القره غولي:الموسيقي الذي قاد ثورة التجديد

388

عادل مكي/

الفنان طالب القره غولي ظاهرة فنية عراقية كبيرة، وكنز من كنوز الإبداع الذي لن يجود الزمن بمثله دائماً، فهو حالة خاصة وفريدة أسهمت في تطور منظومة الموسيقى واللحن العراقي الشجي الذي سيبقى ينبوعاً لا ينضب تنهل منه الأجيال.
طالب القره غولي فارس اللحن المنمّق بعذوبة وإتقان، مثّل دائماً نهراً ثالثاً من الإبداع ارتوت منه -ولم تزل- الذائقة الموسيقية العراقية، إضافة إلى أنه امتاز بشخصية فريدة، وروح يسكنها الشجن السومري الموشح بتنهدات الأمهات المفجوعات بالفقد والخسارة.

شجرة باسقة
هذا الفتى الجنوبي الملامح جعل من الأغنية العراقية شجرة باسقة تجود بالدفء والحنين لكل من استظل بها، فقد استمد القره غولي عشقه الأزلي من الموروث المخبأ بين تقاسيم ووجوه أبناء مدينته الأولى وعشقها للغناء بشكل فطري، الأمر الذي صبَّ في بودقة الفن العراقي، فتحول هذا العشق إلى غزارة لحنية محكمة الأطراف، ليشكل نقطة انعطاف كبيرة ومهمة في تاريخ الأغنية العراقية، إذ لا يذكر الغناء العراقي إلا وقد ذكر طالب القره غولي. .

لقد عبَّر هذا الفتى الأسمر عن خلجات الوجدان العراقي بالرفعة والسمو والعرفان من خلال ترجمة الأحزان المتلاحقة وتشظي الإنسان العراقي عبر الحقب الزمنية المتعددة، لما عاناه من ويلات وحروب وفقدان وأسى، راسماً بريشته أرق وأعذب الجمل اللحنية والموسيقية التي لا تنسى، فمنجزه اللحني والغنائي أصبح ركيزة أساسية وتاريخاً معفراً بالخلود في وجدان الفرد العراقي، مهما كان هذا الفرد، ومهما كان تكوينه المعرفي، من البصرة حتى أقاصي جبال كردستان، فهو عندما يغني أو يلحن تشعر أن العراق، بكل أطيافه وأشجارة وأنهاره وجباله وبواديه يئن وينوح معه، فهذا العملاق ولد على ضفاف نهر الغراف في مدينة علمت البشرية معنى الالتصاق بالأرض، مدينة حالمة تعطي بلا مقابل، فارتوى منها وكأنها أعطته إكسير الخلود الأبدي.

تراث نغمي
لقد منح هذا الملحن الكبير الأغنية فضاءً واسعاً وشفافاً ومديات جديدة، لأن ألحانه امتازت بالتنقلات والإيقاعية والمقامات بهندسة وزخرفة ضاعفتا من ثرائها النغمي الذي يشد إليه الأفئدة والوجدان.

قبل ظهوره كانت الأغنية العراقية مكبّله بقاعدة المذهب الواحد مع ثلاثة كوبليهات في النص الشعري واللحن الذي يترجم ما قبله، أي عبارة عن مدخل وثلاثة مقاطع تتشابه في اللحن والجمل الموسيقية لفترات طوال.

الثائر المجدد
لقد قلب القره غولي المعادلة الأزلية في النص الشعري واللحن والموسيقى بإدخاله القصيدة المغناة من خلال شعر الراحل الكبير مظفر النواب، الذي امتاز شعره بالحبكة والتماسك اللفظي بمعانٍ راسخة وكبيرة وغير معتادة، وغير مستهلكة أيضاً.
أي أنها ثورة جديدة أطاحت بالأسلوب القديم، مضيفاً إليها أسلوباً جديداً مغايراً لما سبقه من قبل، من خلال المقدمات الموسيقية الطويلة.