في حضرة الإمام!
حسن العاني/
واثق تماماً، إن الأمر بدأ قبل أكثر من خمسة عقود، حيث كنت في بداية المشوار الموشوم بالقلق والتساؤلات، وأنا أتلمس طريقي الأولى بين عوالم الثقافة، ومحاولة الاستقرار وبناء الشخصية، وكان سلاحي الوحيد، قراءات مشرعة الأبواب، مفتوحة النوافذ على التاريخ والفلسفة والأدب والفكر والسياسة، وليس من المتوقع، بل من المؤكد والطبيعي ان تستوقفني، وتستوقف عمري الغض، مئات القضايا والملاحظات والأسئلة والشكوك التي لا أعثر لها على إجابات تشفي الغليل وتدعو إلى الاطمئنان، وأحياناً، أعني في الحالات التي أتجاوز فيها ثقافتي وعمري ومنسوب وعيي الواطئ، أجتهد ما طاب لي الإجتهاد، وأفسر على هواي، وكأنني إمتلكت زمام النضج، وحزت على لقب الأستاذ المفكر، ثم سرعان ما إكتشف في مرحلة لاحقة، نرجستي الفارغة وأخطائي التي تدعو إلى الحزن قبل الضحك، فأعيد النظر في الصغيرة والكبيرة، وأبحث عن رؤية مغايرة وتفسير جديد.. وهكذا كنت لا أعرف الاستقرار ولا الثبات في مكان واحد أو قناعة نهائية، محكوماً بتبلور الوعي، ونضج الثقافة، وتقدم العمر، وتراكم الخبرة..
واحدة من أهم تلك القضايا الساخنة التي إستوقفتني (كثيراً وطويلاً)، منذ وقت مبكر، خاصة في سن المراهقة، هي: لماذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عن علي حيثما ذكر إسمه، ولماذا كان قادة المسلمين بصورة عامة، لا يشاركون في غزوة أو فتح أو معركة أو حرب، إلا وكان النصر حليفهم، ومكتوباً بالحبر السري على راياتهم – باستثناء حالات نادرة جداً- وإذا كان تحقيق النصر لا يدخل في قاموس الغرائب، فان دواعي الغرابة حقاً، حين يكون الخصم متفوقاً في عدد جنوده ومقاتليه، بضعة آلاف مسلم في مواجهة مئات الآلاف من قوات العدو، ومتفوقاً في العدة وآلات الحرب والتجهيزات، مقابل الجيش الاسلامي، وهو قليل العدد، شحيح التجهيز، زيادة على كونه حديث عهد بمفهوم الدولة ومؤسساتها الادارية والتنظيمية والعسكرية، بل وزيادة على ضعف موارد الدولة الاقتصادية، فلماذا يخسر الطرف (القوي)، وينتصر (الضعيف) بمعايير العدد والعدة والقدرات الادارية والتنظيمية والمالية؟
في خضم العشق الذاتي لأمير المؤمنين علي، وبتوقد العواطف التي تُشعلها حماسة المراهقة وإندفاعها، كنتُ أرى في قوته البدنية الاستثنائية، وسيفه الذي لا يشبه إلا نفسه، وشجاعته التي باتت مضرب المثل، وحاضرة عند الاستشهاد عن حق، وشخصيته المتميزة.. هذه الصفات العلوية مجتمعة، دفعتني الى الاعتقاد بأنها وراء إنتصارات علي في مواجهاته القتالية، وكنت أعمم هذه القناعة التي تنتمي الى مرحلة المراهقة، وبدايات تأسيس الوعي، على قادة المعارك الآخرين، وما يتحلون به من بطولة فردية.. غير إن هذه القناعة المبكرة، ما كان لها ان تصمد طويلاً في المراحل اللاحقة، فكل عام ينصرم من القراءة والمتابعة والتجارب الحياتية، يغرس فسائل جديدة من النضج والإدراك والوعي، وهكذا بدأت أتساءل: ألا يوجد في معسكرات الأعداء والخصوم، رجال أبطال وشجعان وأقوياء، ألا توجد فيها عضلات مفتولة، وسيوف بتارة، ومهارات مذهلة في المنازلة، و.. وتهاوت أفكاري القديمة بالتدريج، ثم تهاوت بصورة كاملة في اللحظة التي نضجت فيها ثقافتي وعقليتي ومستويات فهمي، حيث إكتشفت إن وراء النصر مجموعة عوامل، وجملة أسباب أكثر واقعية، وأبعد ما تكون عن تهيؤاتي، ربما كان في مقدمتها الايمان بعدالة القضية التي يقاتل المسلم من أجلها، وفي مقدمتها بالتأكيد إن الامام علي بن أبي طالب مثلاً، كان يتقدم صفوف المقاتلين، وثبُت لي بالدليل القاطع والوقائع التاريخية، إنه كان يأكل مما يأكلون أو دون ذلك، ويلبس مما يلبسون أو دونهم، ولا ينام في سرير من الذهب وجنوده في أسرّة الخوص، ولا يسكن في قلعة محصنة، ولا يحميه فيلق من الحراس، بل كان بين مقاتليه، يتفقد أحوالهم لحظة بلحظة، ويسمع منهم، ويأخذ بالرأي الصائب وإنْ صدر عن أصغرهم، وعشيرته في قلب المعركة قبل العشائر الأخرى، وليس بين ممتلكاته بيوت ولا قصور ولا أسواق ولا مولات ولا دفاتر ولا بساتين ولا حقول ولا رصيد في المصرف ولا سيولة نقدية ولا.. ولا.. علي من دون إمتيازات ولا مخصصات ولا منافع إجتماعية ولا ثروة ولا إستثناءات، فكيف لا تتفجر همم المقاتلين ولا يندفعون، وقد رأوا ما رأوا، وأدركوا إن ثمار النصر لن يستأثر بها قائدهم، إنما هو نصرهم جميعاً، وقضيتهم جميعاً و.. وذلك هو أبو الحسن الذي نتحدث عن مآثره وشخصيته، في الحرب والسلم، وفي الخلافة وخارجها، ما طاب لنا الحديث، والسؤال الوحيد الذي مازال عالقاً في الذهن منذ خمسين سنة، أين (نحن) منه، أعني أين (هم) من علي؟!.