اعترافات مرتشٍ

1٬158

عواد ناصر/

أنا متهم بأنني مرتشٍ… وكل متهم بريء حتى تثبت إدانته. لم يدعِ عليّ أحد، وبذا لم أقف أمام أي قاضٍ. بالمناسبة، ثمة قضاة مرتشون شهيرون.. ومنهم من ثبتت عليه التهمة قانونياً، ولأنهم متمرسون في الرشوة، ومختصون بالقانون، فهم طلقاء بل يمارسون مهنتهم كقضاة.

الرشوة أنواع، لكنني أختصرها بنوعين رئيسين: رشوة مدنية سلمية، تنطلق من مبدأ تبادل المنفعة، وتمشية الأمور وتسهيل حياتك وحياة الآخرين، مقابل مدفوع مادي أو معنوي.

النوع الثاني: رشوة عنفية، وما يتعلق بها من مخاطر بدنية أو نفسية على حياة فرد أو مجموعة أفراد. شخصياً، أنا ضد هذا النوع من الرشوة. ثمة تعريفات مبالغ بها للرشوة، فإن تأخذ مبلغاً من المال لتتغاضى عن نواقص بسيطة في معاملة إدارية، هو نوع من الرشوة الإيجابية، إذ يدخل هذا في باب “تسهيل” إنجاز المعاملة والوقوف إلى جانب المواطن بمواجهة الروتين والبيروقراطية.. لكنك تسمي هذا “رشوة”.

أنت تمنح إبنك مبلغاً من المال أو تشتري له لعبة يحلم بها، لأنه نجح في الامتحان المدرسي. هل تسمي هذا رشوة؟

آه، تذكرت: عندما كنت تلميذاً صغيراً وابن عائلة معدمة، لم أكن أملك حتى ثمن سندويتش بسيط.

حدث أن زميلي الذي يشاركني المقعد رمى المعلم بقطعة صغيرة من الطباشير، جاءت في صلعة ذاك المعلم، كان من ألطف معلمينا في تلك المدرسة، حتى أنه لم يضرب تلميذاً في حياته، ولما كنت، أنا، الوحيد الشاهد على فعلة زميلي، طلب مني أن أكتم السر وعرض عليّ أن يكافئني بواحد من ثلاثة ساندويتشات دستها له أمه في الحقيبة.
..وهكذا تمت الصفقة. هل تسمي تعاطفي مع زميلي ودرء العقوبة عنه وحمايته رشوة؟ (يضحك).
مرة عثرت أمي في أحد جيوب أبي على مبلغ من المال. كنت أرى ذلك، وهي تنظف جيوبه قبيل غسيل ملابسه.
عندما عاد أبي من العمل، كان موظفاً في دائرة غامضة (لا أمي ولا أنا نعرف بالضبط ماذا كان يعمل أبي). عندما سألها أبي ما إذا عثرت على مبلغ من المال نسيه في أحد جيوب بنطلونه، ردت أمي بالنفي وهددتني بعضة من شفتيها.
نادتني أمي إلى المطبخ حيث كانت تعد الغداء لأبي، ثم سحبتني من أذني لتهمس: لا تخبره بأني وجدت ذلك المبلغ في أحد جيوبه. اسكت وسأشتري لك كرة حلوة. فسكت. كما ترون، كانت “الرشاوى” إذا شئتم، منذ صغري هي التي تعرض عليّ ولم أكن أسعى إليها، ولم أزل اتعفف عن تسلم أي “هدية” مقابل خدمة لأي كان، بل لم أطلب، صراحة، من أي كائن على وجه الأرض، ثمناً لأتعابي أو خدماتي الإنسانية والوطنية. أقول: “خدمات وطنية” لأني أصبحت شخصية عامة تحتل منصباً رفيعاً في الدولة، أعقد صفقات دولية كبرى من أجل وطني، من عقود الطائرات الحربية أو المدنية إلى تشجير الشوارع، مروراً بعقود البناء والترميم.

لم أتقاض على أي منها فلساً واحداً، بطلب صريح أو مبطن من جانبي شخصياً.

لكنني أُفاجأ بـ “هدايا” على شكل مبالغ في حسابي المصرفي.