فاروق سلوم.. من قلعة تكر يت إلى ثلوج السويد نصـــــف قرن بصحبةِ المزمار وإوزّة هولغارسون

802

آمنة عبد النبي /

طار بخياله كطفل على ظهر إوزة “نيلس هولغارسون” او مايعرف بـ “نيلز”، الشخصية الكارتونية السويدية التي شرحت لأطفال إسكندنافيا جغرافية البلاد من خلال هجرة موسمية مشوقة على جناح طائر، آخذاً بين أضلاعه الى هناك حبه الصادق للأدب الطفولي الذي ظل لما يقرب الربع قرن يؤثثه بالثقافة الملونة ويعزفه كقصيدة إنسانية فذة، وأحياناً يبكيه كشاعر مصاب، وتارة أخرى يحول طعم الأمنية البريئة المتكدسة في صدرهِ الى رقصةٍ فنية على شاكلةِ لوحة بقلب كبير يتسع لأحلام كل الصغار باعتباره ظاهرة جمالية خاصة بكوكب الطفل جاوز نتاجها الدسم الثلاثين عاما.ً
ألّف ثلاثة وعشرين كتاباً خاصاً بالأدب الطفولي، لذلك تعد تجربته في مجال ثقافة الطفل هي الأبرز، ليس على صعيد العراق وإنما في عموم العالم، وقد تسلم رئاسة تحرير مجلتي والمزمار في منتصف السبعينيات، وأصبح مديراً عاماً لدار ثقافة الأطفال في منتصف الثمانينيات، وأصدر الكثير من المجاميع الشعرية للأطفال منها “قـــوس قزح” و”أغاني الحصان” و”عشرة أفكار” و”قصائدي للأطفال”، وحصل على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الأليكسو”، وعلى وسام الاستحقاق العالي، ولم يقف عند هذا المنجز وإنما هو ذاته الكاتب في الأدب والتشكيل والعمارة والشاعر الذي أصدر ثماني مجاميع شعرية.
(سوالف) موسوعية دسمة في المهجر خص بها مجلة “الشبكة العراقية” عن مسيرته الفذة وتجاربه الثقافية والفنية اللاحقة داخل المناهج السويدية والمحتوى القصصي لتراث الأدب الطفولي الاسكندنافي، فضلاً عن التطرق الى ينابيع الظلام الفكري الذي تسرب الى مخيال الطفل الشرقي في العقود الأخيرة.
رحلة سياحية وتلاقح تربوي
*قبولها بإعدادِ كتاب في علم الجغرافيا ليحبب هذا الدرس للتلاميذ والأطفال لم يكن سهلاً، إلا أن الكاتبة السويدية سلمى لاغرلوف خاطرت بمنهجية قصصية نادرة عبر ابتكارها لنيلز ورحلته، برأيك لماذا اختارت الميديا لترجمة الفكرة كارتونياً؟
-لاغرلوف، وعبر تجربتها الطويلة كمعلمة، وجدت فظاظة في العديد من المناهج الدراسية، وبعد تجارب عديدة توصلت الى شخصية نيلز ورحلته التي أنجزت كتابتها بين عامي 1906- 1907، ووضعت صورته على ورق العملة السويدية، لذلك وجدت –أنا- ومن خلال تجربتي التربوية في السويد خلال سنوات المهجر، وبعد أن عملت في حقل التعليم، أن تجربة لاغرلوف هي التي وضعت أسس التجربة التربوية السويدية برمتها، التي تسمى (التعليم من خلال اللعب)، التي اقتبس الكثير من التجارب العالمية منها أسساً منهجية جديدة لتجديد التعليم ووسائله وأدواته وطريقة التعامل مع عقل الطفل وإمكاناته والحث باتجاه إطلاق خياله وقدراته في التعبير الحر عما درسه دون قياسه بمسطرة الامتحان والدرجات، علماً أنني وطوال فترة التدريب والعمل في التربية هنا، لم أصادف طفلاً يبكي لأنه رسب في مادة ما أو عاقبه معلم ما لأنه لم يحضر واجباته المدرسية أو لم يحفظ عن ظهر قلب نصاً ما، بل وجدت دائماً أطفالاً يريدون الذهاب الى المدرسة، لأن منهجية التعليم من خلال اللعب تطورت ووفرت للتعليم بيئة يجد فيها الطفل نفسه فيها مشدوداً الى قاعة الدرس المليئة بالوسائل المساعدة لتسهيل قبوله وإطلاق خياله وتفكيره، وكل ذلك بفعل تأثيرات رواية رحلات نيلز الجغرافية.
ورش غنائية وقصائد نغمية
*مجلتا المزمار ومجلتي وغيرهما، نتاجها أجيال تربت على فكرة القيم الأخلاقية المشروطة بالسلوك لدرجة أن أسماءها ومحتواها القصصي حاضرين اليوم، هل الخلل اليوم في المنظومة المختصة وعجزها أم أن الخلل في ثورة النت التي حولت عالم الطفل الى ربح وخسارة لا سلوكاً ومعياريّة كما تعتقد؟
-أنا وجيل من الكتاب والشعراء والرسامين انشغلنا بفكرة الطفولة زمناً جاوز الثلاثين عاماً، وكنا في ورشة دائمة للتجارب والكتابة والرسم، هي ورشة مجلتي والمزمار ، وكنت طوال الوقت، وحتى في قاعات الدرس في كلية اللغات أفكر بالأصوات والترديدات والتنغيمات والكلمات التي تناسب قصيدة الطفل، وكان هناك في نفس الوقت رسامون ومبدعون آخرون يفكرون بكيفية شد الطفل الى المفردة والمعلومة اللتين تطلقان خيال الطفل وعقله نحو معارف جديدة، كان صديقي الدكتور مالك المطلبي يشاكسنا بمحبة حين يقول “إن شاعر الأطفال يعني أنه شاعر فاشل”، وقد ينطبق ذلك على كل من يعمل في مجال الكتابة للأطفال، والحق هنا يبدو أنه شاعر فاشل من قبل ومن بعد، لأنه غير مشتبك في محاور إبداعية ونقدية ثقافية عريضة تنشغل بها بيئات ثقافية أخرى، أي أنه ينشغل بهوامشها وتأثيراتها، بل هو مخلوق مشتبك مع نفسه من أجل مفردة تفجر نبعاً من الموسيقى والأفكار في نص قصير، فقد كنت ألتقط الأصوات والكلمات والاشتقاقات اللغوية لكي أبلغ نبع القصيدة الغنائية للأطفال.
هوية ضائعة وصدمة ثقافية
*لغة توصيل الفكرة المكثفة تشبه اكتشاف شارلي شابلن خاص بالأطفال، وهو ما ظل يعانيه أدب الطفل العربي، ولم يكتفِ التهريج والفراغ بسلبِ محتويات المتعة، بل ولدا لدينا أجيالاً إلكترونية لاتفقه سوى متلازمة الأكشن، لماذا؟
-المشكلة الكبرى الآن في بلادنا هي أن الغالبية لم تستوعب الصدمة الثقافية التي أحدثتها وسائل الاتصال خلال العقد الأخير، بل أدعي أن الكثير من السياسيين وأصحاب القرار، وليس فقط المثقفون والتربويون والكتاب والشعراء، لم يستفيقوا بعد، وظلوا يرددون مقولات وأفكار عقيمة من ثقافة الماضي، أي أن سرعة الصدمة التي واجهناها خلخلت كل ما نعتقده ثابتاً من القيم والمعايير والأفكار والمناهج والأسس، بحيث أصبحنا اليوم نشهد جدلاً واسعاً حول مناهج التربية وإعداد المجتمع وترسيخ مؤسساته، أعترف بوضوح بأننا الآن لانمتلك أي مشروع ثقافي، وصار البحث عن الهوية والجدلية الاجتماعية والثقافية والسياسية الكبرى التي لن توصلنا الى المشروع الثقافي الوطني الذي يرسخ الإيجابي والحداثي والمطلوب، وكما ترين فإننا بسبب انعدام مشروعنا الثقافي وضياع الهوية صرنا نتشتت في مشروعات الهوية المتشظية بين القبلية والطائفية والمناطقية.
تفخيخ فكري وحماية أخلاقية
*المحتوى القصصي لتراث الأدب الطفولي الاسكندنافي الثر قبالة الظلام الفكري الذي تسرب الى مخيال الطفل الشرقي في العقود الأخيرة، لايمكن هنا حتى وضع مقاربة لا مقارنة كما يجزم سلوم..
-المتفحص بكمية التفخيخ الفكري الممنهج وقتامة الحروب التي تتسرب يومياً الى مخيلة الطفل الشرقي يقف خجلاً أمام مانشرته الروائية السويدية لندغرين في سنة 1973 برواية “الأخوان قلب الأسد” إذ ينتحر أحدهما بعد موت أخيه ليلحق به الى العالم الآخر، حينما تعالت أصوات النقاد رافضة تقبل فكرة الموت بمثل هكذا طرق مؤذية لمخيلة الطفل، مع أن الكاتبة هنا هي ابنة مجتمع الاستقرار، إذ بعد الحرب العالمية الثانية ترسخت مؤسسات المجتمع الديموقراطي وقواعده وقوانينه، واستطاعت قوى فاعلة أن تؤسس القوانين المعمول بها في السويد اليوم من العدالة والحرية وقوانين الحماية والحق في التعليم والسكن والعناية الصحية وغيرها، وبلغت المناهج التربوية والثقافية مرحلة التعليم في مجالات الموت والحياة والخلق والعلاقة بين الرجل والمرأة في إطار من الحماية الأخلاقية والاجتماعية، وليس كما يتحدث به البعض من مواد تتعلق بالثقافة الجنسية وما يجري الادعاء به تحت قائمة المحرم والممنوع وإسقاطها من مناطقنا وثقافتها عبر موجات الهجرة على تجارب راسخة هنا في أوروبا.